ایکنا

IQNA

السيدة الزهراء(ع) في محراب العبادة

9:02 - November 25, 2025
رمز الخبر: 3502557
النجف الأشرف ـ إکنا: تُعدّ السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) واحدةً من أبرز الشخصيات الروحية في التاريخ الإسلامي، وقد اتفقت المصادر الروائية عند المسلمين، وبخاصّة عند الإمامية، على أنّ عبادتها كانت نموذجاً فريداً في الإخلاص والخضوع لله سبحانه.

ولأجل إبراز هذا البُعد، تهدف هذه المقالة إلى تحليل سلوكها العبادي من خلال الروايات المعتبرة التي نقلت صورة حياتها اليومية، وشهادة الرسول الأعظم(ص) على طهارتها وطاعتها، وما تميزت به من قيامٍ وتهجّدٍ ودعاءٍ وذوبانٍ في عبادة ربّها.
 
أولاً: ملامح الحياة اليومية للزهراء عليها السلام وأثرها في سلوكها العبادي
 
1. السيدة الزهراء(س) بين أعباء المنزل وتهجّد الليل:
 
رغم أنّها كانت في مقتبل العمر، حيث يحتاج الإنسان عادةً إلى مزيد من النوم، إلا أنّ السيدة الزهراء(ع) لم تعرف راحة الجسد. فقد جمعت بين أعباء البيت ورعاية الزوج والأطفال، في وقتٍ لم يكن فيه من الوسائل المعينة ما يُخفّف عن المرأة مسؤولياتها.

وتذكر الروايات أنّ النبي الأكرم(ص) دخل عليها يوماً فوجدها مستغرقة في غفوة، ويدُها على الرحى، وطفلها في حجرها، فقال لها: «يا بُنيّة، تعجّلي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة».

إقرأ أيضاً:


وهذا النص يكشف عن حجم الجهد الذي كانت تبذله، وعن صبرٍ نابع من فهمٍ واعٍ لغاية الوجود.

2. إدارة البيت بروح العدالة والتواضع:

عندما جاءت «فِضّة» لتساعدها، أمر النبي صلى الله عليه وآله أن يُقسم العمل بينهما بالتساوي. فكانت عليها السلام تتناوب مع خادمتها في أعمال البيت، في مشهد يجسّد قمة الأخلاق والتواضع، ويجعل من العمل المنزلي جزءاً من العبادة اليومية التي تتقرب بها إلى الله تعالى.
 
ثانياً: قيام الليل والعبادة في الأسحار

1. التهجّد حتى تورّم القدمين: 

دلّ النقل المتفق عليه أنّ السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام كانت تقوم الليل حتى تتورّم قدماها، أسوةً بوالدها رسول الله صلى الله عليه وآله. فقد كانا يتوجّهان في صلاة الليل إلى الله، ويرددان «إيّاك نعبد وإيّاك نستعين» بوعيٍ خاشع يرقى إلى مقام العبودية الكاملة.

2. عبادة تتجاوز الذات إلى الآخرين: 

يروي الإمام الحسن(عليه السلام) أنه وجد أمه قائمةً في محرابها ليلة جمعة، راكعةً ساجدةً حتى انفلق الصبح، وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات دون أن تدعو لنفسها، قائلاً: «يا أمّاه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟» فأجابته: «يا بنيّ، الجار ثمّ الدار».

وهذا التعبير يعكس فلسفة أخلاقية في العبادة ترتكز على الإيثار الروحي، وتقدّم حاجة الأمّة على حاجة الفرد.
 
ثالثاً: شهادة النبي(ص) في طاعتها وعبادتها

1. الامتلاء القلبي بالإيمان:

شهد لها رسول الله(ص) قائلاً: «إنّ ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيماناً إلى مشاشها، ففرغت لطاعة الله».

وهذه الرواية تؤسّس لفكرة أنّ العبادة عند الزهراء عليها السلام لم تكن مجرد ممارسة ظاهرية، بل كانت انغماساً وجودياً في الطاعة، يملأ القلب والجوارح.

2. شهادته على إشراق نورها في العبادة: 

وفي رواية أخرى قال(صلى الله عليه وآله): «إذا قامت في محرابها زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض…».

هذا الوصف يقدّم تصويراً ملكوتياً لمقامها العبادي، ويكشف عن علوّ درجتها الروحية حتى تشهد الملائكة خضوعها ورهبتها.

3. كرامة تأمين شيعتها من النار: 

وتختم الرواية بقول الله تعالى: «يا ملائكتي، انظروا إلى أمتي فاطمة… أُشهدكم أنّي قد أمّنت شيعتها من النار».

وهو نصّ يحمل دلالة واضحة على العلاقة الروحية بين عبادتها ومقام الشفاعة الكبرى التي خُصّت بها.
 
رابعاً: العبادة في السلوك الاجتماعي للزهراء عليها السلام

1. استغراقها في العبادة في أوقات مخصوصة: 

كانت عليها السلام تخصّص الساعات الأخيرة من نهار الجمعة للدعاء، ولا تنام الليل في العشر الأواخر من شهر رمضان، وتحثّ أهل بيتها على إحياء الليل بالعبادة. وهذا يشير إلى وعيها بالأزمنة الشريفة، وحرصها على أفضلية العمل فيها.

2. حسن التبعّل وتربية الأولاد كصورة من صور العبادة: 

لم تكن عبادتها مقتصرة على المحراب، بل كانت تمتد إلى حسن معاشرتها للامام علي(عليه السلام)، وتربيتها لأولادها، ومواساتها للفقراء. فالعبادة عندها شمولية مترابطة، تتجسد في كل حركة من حركات الحياة اليومية، وفي كل موقف أخلاقي.

3. شهادة الحسن البصري:

قال الحسن البصري: «ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة…».

واللافت أنّ هذا القول يصدر من شخصية معروفة بالتشدد ومخالفة أهل البيت(عليهم السلام)، مما يكشف إجماعاً واسعاً على تميّز عبادتها.
 
واخيراً نقول: 

إنّ دراسة عبادة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام تكشف عن نموذجٍ سامق للروح العبادية في الإسلام. فقد جمعت بين العمل المنزلي، ورعاية الأسرة، والقيام بالليل، والدعاء للأمّة، ومواساة الفقراء، والخضوع العميق لربّ العالمين.

وتدلّ الروايات المتواترة على أنها بلغت مقاماً عباديّاً يجعل نورها يُرى في السماوات، وتُشهد الملائكة إخلاصها، ويشهد الرسول صلى الله عليه وآله بطهارتها وامتلاء قلبها بالإيمان.

إنّ هذه السيرة ليست سيرة تاريخية مجردة عن الدلالات الروحية والسلوكية، بل هي منهجٌ عمليّ لكل من يريد أن يجسّد معنى العبودية الحقيقية، التي ترتفع بالإنسان من حدود الذات إلى آفاق خدمة الآخرين، والارتقاء بالروح، وتطهير القلب.

بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري 
captcha