
التهوّر: السقوطُ في الشيء من غير رُوِيَّة، وقيل: الإقدام على الأمر بغير فكرٍ ولا تروٍّ ولا نظرٍ في العاقبة. والتهوّر هو المخاطرةُ بالنفس من غير ضرورة، وهو من صفات الجهّال لا الشجعان. ويُضادّه التثبّتُ والتأنّي والتمهُّلُ مع نظرٍ في العواقب.
في جوهرته الكريمة يكشف الإمام أمير المؤمنين (ع) عن العلاقة بين التهوّر والندم؛ فإذا كان التهوّر يعني السقوطَ، فمما لا شكّ فيه أنّه سقوطٌ للإنسان من مرتبة العقل إلى مرتبة الهوى. فالإنسانُ العاقل في حالٍ من الارتقاء الدائم؛ إذ يتسامى في معارفه وفهمه ووعيه وأخلاقه وسلوكه، أمّا المتهوّر فإنه يترك زمامَ نفسه لهواه وغريزته، فيسقط من عُلُوِّ العقل إلى حضيض الحيوانية، وذلك ما يفضي إلى الندم والشعور بالمرارة والخسران.
التهوّر يعني غيابَ الوعي عند الإنسان، أو انغماسَه في اللحظة الراهنة دون النظر إلى ما بعدها. وهو حالةٌ نفسيّة من العَمى، يقع فيها المرءُ ضحيةَ الحماس أو الغضب، فيغفل عمّا يجب عليه لحاضره ومستقبله. وهو فقدانُ البصيرة قبل القرار؛ أن يندفع المرءُ في خطواته على غفلةٍ من عقلِه، وأن يسبقَ حماسُه حِكمتَه. يقول الإمام علي (ع): "إِيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ فِي الْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا، أَوِ التَّسَقُّطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا".
ويقول (ع) أيضاً: "الرَّوِيَّةُ قَبْلَ الْعَمَلِ تُؤْمِنُكَ مِنَ النَّدَمِ".
إذنْ فالتأنّي دَيْدَنُ العقلاءِ ومنهجُهم، والتهوّرُ دَيْدَنُ الجهلاءِ ومسلكُهم. ومن يتهوّر لا يندمُ وحسب، بل يكون خائناً لنفسه التي يجب عليه أن يجلبَ إليها النفع ويجنّبَها الضرّ والخطرَ والخسران.
ولقد لخّص رسول الله (ص) الموقفَ من التهوّر في حديثٍ بليغٍ جامع، قال فيه: "الرِّفْقُ يُمْنٌ، وَالْعَجَلَةُ شُؤْمٌ".
وقال (ص): "مَن تَأَنّى نَالَ مَا تَمَنّى". فالرفق، وهو ضدّ التهوّر، يُمنٌ وسلامةٌ وبركةٌ، بينما التهوّر يفضي حتماً إلى الندم والشؤم والخسارة.
وكم من شابٍّ تهوّر في اختيار شريكِ حياته بدافعٍ من الانفعال العاطفي، دون تروٍّ أو مشورةٍ أو حتى استخارة، ثم عضّ أصابعَ الندم بعد أن تكشّفت له طبائعُ لم يكن يراها تحت سطوة العاطفة.
وكم من تاجرٍ اندفع وراء صفقةٍ مُغريةٍ دون دراسةٍ أو استشارةِ أهل الخبرة، فخسر مالَه وربما شرفَه، وهو يردّد في نفسه: "ليتني تأنّيت".
وكم من خطيبٍ أو كاتبٍ تهوّر في كلمة، أو كتب منشوراً لحظةَ غضب، ففقد احترامَ الناس أو أوقعَهم في فتنةٍ وهَرْجٍ ومَرْج؛ لأنّ الكلمة حين تخرج بغير وعيٍ تكون كالسهم المشتعل ناراً يحرق كلَّ شيء.
ومن كلّ ما سبق يتبيّن لنا أنّ التهوّر وجهٌ آخر للضَّعف: ضَعفِ العقل وضعفِ الإرادة. فالقويّ حقّاً هو الذي يملك نفسَه عند الغضب، بل يملكها عند كلِّ هوى، وعند كلِّ قرار، وعند كلِّ خطوة. أمّا المتهوّر فخاضعٌ ضعيفٌ أمام هواه وشهواته وانفعالاته. وقد قال أمير المؤمنين (ع): "الشُّجَاعُ مَنْ غَلَبَ هَوَاهُ".
إنّ الذي يتأنّى قبل اتخاذ القرار لا يفعل ذلك من ضعفٍ ولا من عجزٍ ولا من خوف، بل يفعله من قوّةٍ وحكمة؛ لأنّ القرار بعد النظر ثمرةُ العقل، بينما القرار قبل النظر ثمرةُ الغفلة. وحين يتروّى الإنسان ويتأنّى تتجلّى في قراراته علاماتُ الرشد: من حُسنِ العاقبة، وسلامةِ النتائج، وطمأنينةِ النفس، والشعورِ بالراحة. ولهذا قال رسول الله (ص): "إِنَّ فِي التَّأَنِّي مَنْفَعَةً، وَفِي الْعَجَلَةِ مَضَرَّةً".
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي