ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة..

مَنْ غَلَبَ هَواهُ يَعِزُّ

22:19 - December 06, 2025
رمز الخبر: 3502708
بيروت ـ إکنا: يرى علماء النفس أن الهوى هو صوت الرغبة الفورية، وأن الانتصار عليه فعل الوعي والإرادة، ويتمّ ذلك بالتحكّم في الدوافع، وتأجيل الإشباع، وتجنّب المثيرات، وربط السلوك بهدفٍ أسمى يمنح الضبطَ الذاتي معنىً وغاية.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ غَلَبَ هَواهُ يَعِزُّ".
 
في هذه الجوهرة الكريمة يكشف الإمام أمير المؤمنين (ع) عن أعظم انتصارٍ وغَلَبةٍ يمكن أن يحقّقهما الإنسان في أعظم المعارك الحقيقية التي يخوضها على الدوام؛ إنها معركته مع أهوائه وشهواته وغرائزه.
 
فهذه الأهواء قد تنتصر عليه تارةً، فتستعبده وتسلبه إرادته وحريته، كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿الجاثية:23﴾.

ترسم الآية الكريمة لنا مشهداً عجيباً للنفس البشرية حين تتبع الهوى الذي لا يُشبِعه شيء، والذي يبقى في تقلّبٍ دائم، فتقيمه إلهاً قاهراً لها، مستولياً عليها. فالإنسان في هذه الحالة كائنٌ عجيبٌ يمضي بإرادته نحو الضلال والضياع، يعلم أنه على الباطل، ويعلم أن للباطل عاقبةً وخيمة، ولكنه مستسلمٌ له استسلاماً تامّاً، قد انطمست معه كلّ المنافذ التي يدخل منها النور إلى قلبه وعقله، وتعطّلت فيه المدارك التي يتسرّب منها الهدى، إذ خضع للهوى خضوع العبادة والتسليم.
 
وهذا الإنسانُ الذي يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويمنحه الفرصة كاملةً للهدى والارتقاء والسير في طريق التكامل الإنساني، تراه ينسلخ من كلّ ذلك انسلاخاً تامّاً؛ ينسلخ كأنّما الآياتُ أديمٌ له متلبّسٌ بلحمه، فهو ينسلخ منها بعنفٍ وجهدٍ ومشقّة، ويتجرّد من الدرع الحامية، وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى، فيصبح غرضاً للشيطان لا يقيه منه واقٍ، فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه، فإذا هو مِسخٌ في هيئة الكلب، يلهث إن طورد، ويلْهَثْ إن لم يُطارَد. قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴿175﴾ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴿الأعراف: 176﴾.
 
وتارةً هو ينتصر عليها، غير أن المنتصرين على أهوائهم قليل، ولا سيما في عالمنا المعاصر الذي يموج بالرغبات، وترتفع فيه الأصوات الداعية إلى إرضاء الذات، وإطلاق العنان للغرائز والأهواء. فالانتصار على الهوى هو المعركة الكبرى التي تمنح الإنسان عزّته الحقيقية؛ معركةٌ يجب أن يخوضها حتى النهاية، متسلّحاً بالإرادة القوية، والنية الصادقة، والعقل المتحفّز، والقلب النبيه، وبالتزكية الدائمة المتواصلة، كما قال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿7﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿8﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴿9﴾ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴿الشمس:10﴾. والتزكية تتحقّق بالمراقبة، والمحاسبة، والاستعانة بالله، ومجاهدة النفس بالصبر، والاستعانة على ذلك بالصلاة والذكر والعبادة.
 
ويرى علماء النفس أن الهوى هو صوت الرغبة الفورية، وأن الانتصار عليه فعل الوعي والإرادة، ويتمّ ذلك بالتحكّم في الدوافع، وتأجيل الإشباع، وتجنّب المثيرات، وربط السلوك بهدفٍ أسمى يمنح الضبطَ الذاتي معنىً وغاية.
 
ولا يفوتني أن أنبّه قارئي الكريم إلى أن الانتصار على الهوى لا يعني إلغاءه ولا قمعه، بل يعني أن نجعل العقل هو الحاكم عليه فيما يَهواه؛ فما يُرضيه العقل والشريعة غذّيناه، وما يرفضانه رفضناه. فالهوى كالنار: إن تركناها أحرقتنا، وإن ضبطناها أنارت دروبنا. والفضيلة أن تملك نفسك عند الشهوة والغضب، وتزن أفعالك بميزان الحق.

بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي
captcha