
هذه واحدة من السُّنَن الربانية التي لا تتبدل ولا تتحوَّل، مَنْ يَمْكُرْ بالآخرين ويخدعْهم، يَرْجِعْ عليه مكره، ويصيبه، ويحيط به، وهذا من أهم مظاهر العدالة الإلهية التي لا تتجاوزها مَظْلَمة مظلوم.
المَكْر: يعني التخطيط الخَفِيّ، أو الخديعة التي يُقصَد بها إيقاع الأذى أو السوء بالغير عن طريق المخادعة والمخاتلة، فهو تدبير يتمّ في الخَفاء والسِّرّ، وفيه سوء القصد، وهو إلحاق الضرر بالآخر، أو سلب حقه، أو التسبب له بمشقة، وسوى ذلك من أنواع الإضرار.
وعندما يطلق المكر على الله تعالى، لا يُراد به ما يُراد من الإنسان، بل يكون معناه أن الله يجزي الماكر بمكره، أو يُبطِل مكره ويوقعه فيه. فإن الله تعالى لا يكون منه شَرّ.
إن رجوع المكر على صاحبه سُنَّة ربّانية ثابتة، تضمن أن الظلم والخديعة لا يمكن أن يبقيا إلى ما لا نهاية من دون جزاء، بل إنهما العقاب ذاته، فقد يظنّ الماكر أنه سيحقق بالمكر ما يبغيه من سوء بالآخر، وأن الشخص المستهدف لن ينجو من مكره، ويظن الماكر كذلك أن الأمور ستستوي له، وأنه سيفلت من العقاب، لكن الأمر ليس كذلك أبدًا، فما من مكر سيّءٍ إلا ويحيق بأهله، فما يلبث المكر أن يدور ويرجع إليه.
الأمر أشبه بتلك الأداة الخشبية التي تعتبر رمزًا من رموز أستراليا والتي تسمى (البُومِيرانْغ) وهي أداة خشبية مقوّسة تُرمى بطريقة معيّنة فتنطلق في مسار دائري، ثم تعود إلى الرامي بفضل شكلها الهوائي وطريقة دورانها.
كذلك المكر فإنه يرجع على صاحبه بالخُسران والوَيل والثبور، وقد ذكر القرآن الكريم هذه السُّنَّة في أكثر من آية كريمة، وأكَد أن الله يُبطِل مكر الماكرين، ويوقعهم فيه، منها قوله تعالى: "... وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴿فاطر: 10﴾.
وقوله تعالى: "... وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴿فاطر:43﴾.
وقوله تعالى: "... لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿الأنعام: 123﴾.
وقوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴿الأنفال:30﴾.
فهذه السُّنَّة تقرِّر أن مكر الماكرين لا يتجاوز حدودهم، قد يتضرر الممكور به قليلاً، لكن الضرر الأكبر يرجع عليهم أنفسهم، وهو يحيق بهم، ويلتفُّ حول أعناقهم، فلا يمكنهم الإفلات منه البَتَّة.
وتقوم هذه السُنَّة على مبدأ (الجزاء من جنس العمل)، فإذا كان القصد إلحاق الضرر خفيةً، فإن الرّدَّ الإلهي يكون بإنزال الضَّرَر على الماكر أيضاً، وغالباً ما يكون ذلك من حيث لم يحتسب أو يتوقع، وقد أكَّدت الآيات المتقدمة أن المكر السيِّءَ لا يحيط إلا بأهله، فهو مرتد عليهم لا محالة.
كما تتضمن هذه السُّنَّة أيضاً فضح نوايا الماكر، فبينما هو يعتقد أنه يخدع الجميع في الخَفاء، فإن تدبير الله يكشف أمره، ويصبح هو نفسه مكشوفاً ومحطَّ سخرية وريبة، مما يُجرده من الثقة والمكانة التي قد يكون استغلها لتنفيذ مكره.
وتتضمن كذلك تحويل التهديد إلى فرصة، كما نلاحظ ذلك في الآية المتقدمة "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا" ذلك أن المشركين خططوا للتخلُّص من رسول الله (ص) إما بقتله، أو حبسه، أو إخراجه وطرده من مكَّة المكرمة، وقد كان النبي (ص) يحتاج إلى مكان آمن تنطلق فيه دعوته إلى العالم ولم يعد ذلك ممكنا في مكة، فأخبره الله بمكرهم، فخرج من مكة مهاجراً، وما لبث أن عاد إليها فاتحًا في بضع سنين.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي