
رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "بَذْلُ التَّحِيَّةِ مِنْ أَحْسَنِ الْأَخْلاقِ وَالسَّجِيَّةِ".
يحرص الإسلام كثيراً على بناء مجتمع إنساني متماسك، ويحرص أيضاً على التشبيك بين أفراد المجتمع، ومَدِّ جسور المحبة والمودة بينهم، ويحرص على أن يتعارفوا ويتواصلوا ويتعاونوا، ويقيموا حياتهم على قاعدة السلام والأمان وحُبِّ الخير لكل واحد منهم، ولذا يدعوهم إلى إفشاء السلام فيما بينهم، وإفشاء السلام وإن كان المتبادَر منه بذله لكل الناس وذلك بإلقاء التحية على من يلقاه المرء أو يدخل عليه، لكنه مفهوم عام يشمل بذل السلام والأمان والمودة والمحبة والحماية والرِّعاية والمَعونة، ولعَلَّ تحية الإسلام المتعارفة تدلُّ على ذلك.
فقول: السلام عليكم، يحمل هذا المعنى، فإن الذي يلقي هذه التحية على أخيه يقول له: لك مني السلام والأمان، وأريد لك السلام وأعينك عليه، وأهيئ لك ظروفه ومناخاته، فيجيبه الآخر: وعليك السلام، أي يبادله نفس المَضمون، ويهيئ له نفس الظروف والمناخات.
ويدل على ذلك ما رُوِيَ عن رسول الله (ص) وهو قوله: "السَّلامُ تَحِيَّةٌ لِمِلَّتِنا، وأمانٌ لِذِمَّتِنا". فالتحيَّة الإسلامية ليست تحيَّة وحسب إنما هي نحو من التَّعاهُد بين من يبذل السلام ومن يتلقّاه، فكل واحد من طرفي التحية المُلقي والمتلَقّي لها في ذمة الآخر وحمايته ورعايته وجيرته.
ولمّا كان بذل السلام من أحسن الأخلاق والسجايا، لذلك حَثَّ الإسلام عليه، فقد جاء في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين (ع): "السَّلامُ سَبعونَ حَسَنةً، تِسعَةٌ وسِتُّونَ لِلمُبتَدي وواحِدَةٌ لِلرّادِّ" وإنما رجَحَت كَفَّة البادِئ بالسلام بالأجر على كَفَّة الرّاد لأنه هو المبادر إلى فعل غير واجب، بخلاف الرَّادِّ على التحية لأن الرَّدَّ عليها واجب كما نَصَّ القرآن الكريم، حيث قال تعالى: "وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا"﴿86/ النساء﴾.
فالمُبادِرُ بالتَّحيَّة يقوم بعمل أخلاقي رفيع، وعلى المُتَلَقّي أن يبادله بهذا الخلق، فإن لم يفعل كشف ذلك عن سوء طويَّته ورذالة في أخلاقه، وأسَّسَ للنفور بينه وبين أخيه، بل أسَّس لعداوة قد تدوم، وقد ينتج عنها ما لا تُحمَّد عقباه، ولو لم يكن الأمر كذلك لما خَصَّ القرآن التحية بالذكر، ومعلوم أن القرآن الكريم لا يخصُّ أمراً بالذكر إلا إذا كان له تأثير على حركة الفرد أو المجتمع.
إن استحباب بذل التحية ووجوب رَدِّها بأحسن منها أو بمثلها يعتبر من السِّمات البارزة لشريعة الإسلام، ومن الملامح الأساسية لشخصية المسلم، وهو أيضا منهج إسلامي دائم لتوثيق علاقات المودة والمحبة، فالسلام ورَدُّ السلام هو الذي يعمِّق هذه العلاقة ويزيدها مَتانة وقُوَّة، ولذلك جاء التأكيد عليه في الكثير من النصوص الشريفة، فقد رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: "إذا تَلاقَيتُم فَتَلاقَوا بِالتَّسليمِ والتّصافُحِ، وإذا تَفَرَّقتُم فَتَفَرَّقُوا بِالاستِغفارِ" وما أجمل هذا النوع من العلاقة التي تبتدئ بالسلام وتنتهي بالاستغفار، يلتقي المسلمان فيسلم أحدهما على الآخر فيرد عليه أخوه، ثم يتصافحان، ومعلوم الأثر النفسي الذي تتركه مصافحة اليد لليد، ثم يتفرقان وكلُّ واحد منهما يقول لأخيه: غفَرَ الله لك. وهذا فعل يسير ولكنه نبيل، وسَهْلٌّ لا كُلفة فيه ولكن إيجابياته عظيمة، ولذلك جاء في الحديث النبوي الشريف: "إنَّ أبخَلَ الناسِ مَن بَخِلَ بِالسَّلامِ" فلا كلفة مادية ولا معنوية للسلام، فمن بخل بما لا كلفة فيه فهو أبخل الناس بلا شك.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنیة السيد بلال وهبي