ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "بِشْرُكَ أَوَّلُ بِرَّكَ ووَعْدُكَ أَوَّلُ عَطائِكَ".
لا تتوهَمَنَّ قارئي الكريم أن البِرَّ -وهو التوَسُّعُ في فعل الخير- مُكلِفٌ وصعبٌ وشاقٌ وباهظ الأثمان، إنه أسهل بكثير مما تظن، فهو من ناحية ليس محصوراً بأمر معيَن، فكل ما فيه خير ونفع، وكل ما يبعث برسالة إيجابية إلى الطرف الآخر فهو من البر، وهو من جهة أخرى ذو مراتب تبدأ من الأدنى وترتفع إلى الأعلى، ففوق البِرِّ بِرٌّ، وفوق كل ذي بِرٍّ بِرٌّ حتى يُقْتَلَ الرَّجُلُ في سبيل الله فليس فوقه بِرٌّ. كما جاء في الحديث النبوي الشريف، وبالتالي فأنت قادر على أي فرد من أفراده، يمكنك أن تفعل أدناه، ويمكن أن تختار أوسطه، ويمكنك أن تختار أعلاه.
إن من أدنى درجات البِرِّ أن تَلقى الآخَرَ بوجه طَلْقٍ بَشوشٍ باسِمٍ، أن تفرح به، وتنبسط إليه، وتأنَسَ به، وتُقبِلَ عليه، البِشرُ يعني أن يتجلَّى الفرح والسُّرورُ على وجهك عند الالتقاء بالآخر، فيدل على رغبتك القلبية برؤيته، وأنك لا تستثقِلُ وجوده، أو خدمته، أو تقديم ما تَقْدِر من العَون له.
ولا شكَّ في أن هذا النَّحو من التعامل يبعث برسالة قوية الإيجابية إليه، فإن كان مَحزوناً خفَّفْتَ عنه، وإن كان مَهموماً أزلت عن كاهله ولو القليل من الهموم، وإن كان مُتعَباً نفسياً سريَّتَ عنه، وقد يأتيك وهو يتوَهَّم أنك ستلقاه بوجهٍ عابس مكفَهِرٍّ فإذا ببشرك في وجهه يزيل وَهمه وسوء ظنه، فيرتد عليه راحة وسروراً.
البِشْرُ خُلُق كَريم، وفعل نبيل، وضرورة من ضرورات التواصل بين الناس، وقد جاء التأكيد عليه في التعاليم الدينية، وقد كان الإمام أمير المؤمنين (ع) يطلب من موظفي الدولة ومسؤوليها أن يلقوا الناس بالبِشر والبشاشة.
وإيّاك قارئي الكريم أن تُقَلِّلَ من أهميته فإن له الكثير من الآثار الطيبة والبركات الجليلة في حياة الإنسان فردا ومجتمعا، ودنيا وآخرة، إذْ يساعد على إزالة الأحقاد من الصدور، ويخفِّفُ من التوتر والقلق، ويزرع في نفسك ونفس من تلقاه الأنس والمحبة، ويزيد من متانة العلاقة الاجتماعية، ويقَوّي الإلفة بين الأفراد، ويساعد على استقرار العلاقات الاجتماعية، وفي ذلك راحة للبدن وطمأنينة للروح. فضلا عن الآثار المتقدمة فإن البشر سبَبٌ للقرب من الله تعالى والفَوز بمحبته، فقد رُوِيَ عن الإمام محمد الباقر (ع) أنه قال: "البِشرُ الحَسَنُ وطَلاقَةُ الوَجهِ مَكسَبَةٌ لِلمَحَبَّةِ وقُربَةٌ مِنَ اللّهِ، وعُبوسُ الوَجهِ وسوءُ البِشرِ مَكسَبَةٌ لِلمَقتِ وبُعدٌ مِنَ اللّهِ".
وكما أن البِشر أول البِرِّ، فكذلك الوعد أوَّل العَطاء، ولكن كيف نفهم ذلك، فالوعد يبقى وعداً ولم يصل إلى مرحلة العطاء؟
الجواب: إن الوعد دَينٌ في رقبة من وعدَ لا يتحلَّلُ منه إلا بالوفاء به، والوفاء بالوعد واجب عقلاً وشرعاً، والخُلفُ به قبيح كذلك، فقد رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "المَسؤولُ حُرٌّ حتّى يَعِدَ". ولا شك في أن المؤمن يفي بوعده، فإذا وعدَ سائلاً كان ذلك أوَّلُ عطائه له، ولذلك قال رسول الله (ص): "عِدَةُ المُؤمنِ أخذٌ بِاليَدِ" إذ لو لم ينجزه كان للسائل الموعود أن يطالبه به، وقد رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: "العِدَةُ دَينٌ، وَيلٌ لِمَن وَعَدَ ثُمّ أخلَفَ، وَيلٌ لمَن وَعَدَ ثُمّ أخلَفَ، وَيلٌ لِمَن وَعَدَ ثُمّ أخلَفَ".
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي