ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "تَناسَ مَساوِئ الإخْوانِ تَسْتَدِمْ وُدَّهُمْ".
لا تكن ميكروسكوبياً (مجهرياً) في علاقتك بالآخرين تُنَقِّبُ عن أخطائهم، وتكَبِّرُ زلاتهم، وتُعَظِّم هَفَواتهم، وتقف عندها جميعاً، إنك إن فعلت ذلك فلن يسلَم أحد منها، فكل بني آدم خطّاء إلا من عصم نفسه، وقليل مّا هُمْ، ولن تَقدِرَ على مَدِّ جسور المَوَدَّة معهم، فإن من لم يحتمل مساوئ الناس نَفَر منهم واعتزلهم، وليس في إمكان المَرء أن يعتزل الناس، ولا من مصلحته أن يتجنَّب العلاقة معهم جميعاً، فإنه محتاج إليهم وهم محتاجون إليه، لذلك لا مِفَرَّ له من تناسي مساوئ الناس والتغافل عنها.
والحقُّ أن التغافل والتناسي خُلُقان كريمان، وأدبان إسلاميان راقيان، وهما مبدآن يأخذ بهما العقلاء في تعاملهم مع الناس، قريبين كانوا أم بعيدين، فالعاقل لا يستقصي، ولا يقف عند كل كبيرة أو صغيرة، ولا يطمح أن يعرف كل ما يكون من الغير، ولا يعاتب على كل شيء، ولا يقطع الصلة مع الآخرين لأدنى زلة تكون منهم، لأنه إن فعل ذلك وقع في سلبيات كثيرة:
منها: ذهاب هيبته ونفور الناس منه، ونفوره من الناس. فإذا كان يقف عند كل صغيرة وكبيرة فهذه فظاظة بلا شك، ومن يكن فَظاً ينفَضُّ الناس من حوله.
ومنها: أن عدم تغافله يجلِب إليه الشقاء والتعاسة وقد رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "مَنْ لَمْ يَتَغافَلْ تَنَغَّصَتْ عِيْشَتُهُ".
ومنها: أن تغافله يساعده على تقديم النُّصحِ إليهم إذ يرون فيه ناصحاً مُحِباً، أما لو كان يطالبهم بكل خطأ يكون منهم، فسيرون فيه عدواً، الأمر الذين يصدهم عن قبول نُصحه وإرشاده وهدايته.
ثم إن التغافل والتناسي ليس ضعفاً في الشخصية، بل ينبع من قوتها، وثقة صاحبها بها، فالتغافل هو: تكلُّف الغفلة، مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرُّمًا وترفُّعًا عن سفاسف الأمور.
ويدل على سُمُوِّ المرء وعُلُوِّ أخلاقه، ورُقِيِّ تفكيره، وسعيه في الكمال الإنساني، وترفُّعه عن المُهاترات والمُؤاخذات، وسفاسف الأفعال والأقوال.
والمتناسي المتغافل ينطلق من منطلقات أخلاقية وإيمانية تدفعه إلى تسهيل الحياة الاجتماعية، وكسب القلوب، ونبذ أسباب الفرقة، وتوحيد الكلمة، فالذي يتغافل عن الزلات يعيش محبّاً لمن حوله، محبوباً منهم، سليم الصدر من الأحقاد والأضغان، ولهذا كانت العافية كلها في التغافل.
والتغافل ليس غباءً ولا حُمقاً إنما هو ذكاء وفِطنَة، ووعي وحِنكةُ، وحِرص على بقاء المودَّة، ولَنِعمَ ما قيلَ: ليس الغَبيُّ بسَيِّدٍ في قومه، إنما سَيِّدُ قومه المُتغابي. ومع طول الصحبة وصدق المودَّة تشتد الحاجة للتغافل.
فالتغافل من شِيَم العُقلاء الكرام، والتناسي من شِيَمِ السَّادة النُّبَلاء، فإنهم يُقيلون العثرات، ويتناسون الهفوات، ويتسامون فوق النزاعات، ولا تستبدُّ به نَزَعات الهوى، ولا غرائز الانتقام، ولا يسارعون إلى قطع الصِّلَة مع الأَخِلّاء والأصدقاء عند أوَّل بادرة سلبية تكون منهم.
وحدهم أصحاب الهِمَمِ الدنيئة، والنفوس الضعيفة، والقلوب المريضة هم الذين يقفون عند كل هَفوة، ويخاصمون عند كل عَثرة، ويحاسبون على كلِّ زَلَّةٍ، ويجعلون من كل صغيرة كبيرة، ومن كل حَبَّةٍ قُبَّةٍ.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي:
twitter