
الفقر نقصٌ وشَرُّ، وهو أمر سلبي عدمي، فعدم الغنى فقر، تماما كعدم النور ظلام، ولا شك في أن الغنى خيرٌ منه لأنه كمال، ولذا فإن الله سبحانه هو الغني المطلق في كل شيء، ولو كان فقيراً لاستحال أن يكون الله.
وغِناه تعالى ذاتي، أما غِنانا نحن الخلق فهو عَرَضيُّ نستمده من الله، فهو سبحانه المُغني والمُقني، وكل ما بنا من خَير ونِعَمٍ فمِنَ الله. وجودنا منه، وأرواحنا منه، وأبداننا منه، ونبض قلوبنا منه، وكل ما نحتاجه في الحياة منه.
مِمَّا لا نقاش فيه أن على الإنسان أن يسعى ليستغني من موفور رزق الله تعالى، ولكنه مهما سَعى، ومهما نالَ من رزق الله يظل فقيراً محتاجاً إلى الله وإلى سواه من الخلق، وهذا شأن المخلوق، لا يمكنه أن يكون غنياً بالذات لا يحتاج إلى أحد، فلو كان كذلك لصار واجب الوجود مثل الله تعالى وذلك مستحيل.
وما دام ليس كذلك فهو محتاج إلى سواه من الخلق، والخلق محتاجون إليه، وهذه الحاجة هي التي تنشأ منها العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبينه وبين الطبيعة، وما دام الأفراد محتاجين إلى بعضهم فيلزمهم أن يحافظوا على علاقاتهم، وهذا يدعوهم إلى احترام بعضهم بعضاً، والمحافظة على مصالحهم النوعية كما يحافظون على مصالحهم الفردية، وما دام الإنسان بحاجة إلى الطبيعة فذلك يدعوه إلى المحافظة عليها والاهتمام بها.
إنَّ النصوص الدينية تكاد تكون متضاربة فيما بينها بخصوص الفقر، فتارة تمدحه، وتارة أخرى تذمه، وبعض القارئين لها قد يَهوله هذا التعارض، ولكن بالنظر إلى ما سبق يسهل علينا القول: إن خيرية الفقر أو شَرِّيته ليست ذاتية بل تنتج عن تعامل الإنسان معه، فبعض يقوده الغِنى إلى الطغيان، لأنه يجد في يده أدوات الطغيان، وتكون نفسه مهيّأة لذلك، ويبعثه الفقر على الصلاح لانعدام وسائل الطغيان، فالفقر خير له بلا ريب، وبعض قد يبعثه الغِنى على الصلاح، والفقر على الفساد فالفَقر شَرٌّ له بلا ريب.
ومِمّا لا شَكَّ فيه أن قِلَّة المال في يد الإنسان ليست فقراً، فما دام يحصل على كفاف يومه فهو غني، يستغني عن الحاجة إلى الناس وإن لم يكن ثرياً، وإن اعتُبِرَت فقراً فهي المرتبة الأدنى من الفقر، وليست بالخطيرة، فمعظم الناس ليسوا أثرياء، لكنهم في غنىً عن الناس رغم قلة ما في أيديهم بالقياس إلى الأثرياء، أما الدرجة الأعلى من الفقر فهي الفقر النفسي، أي أن يكون الشخص مُبتلىً بالشعور بالفقر الدائم ولو مَلَك ما مَلَك، يقابله الغنى النفسي، فقد تكون جيوب شخصٍ خالية من المال لكنه يشعر بالغنى في نفسه، ولا يخفق قلبه للمال، فإن رُزق بالقليل رضِيَ به، وإن رُزِقَ بالكثير حمِد الله وشكر إنعامه، وقد تكون خزائن شخصٍ آخر مشحونة بالمال ولكنه فقير يريد المزيد، وقد يرمي ببصره دائماً على ما في أيدي الآخرين وإن كانوا لا يملكون إلا أقل القليل، ولذلك فالفقر النفسي شديد الخطورة على الشخص، وآثاره النفسية شديدة السوء، وتأثيره على علاقات المرء الاجتماعية سيئة كذلك.
لكن هناك شَرٌّ مِمّا سبق، إنه المُنى، أي أن يكتفي المَرء بالأماني دون أن يعمل، يمَنِّي نفسه بالغِني ولا يعمل ليستغني، ويمَنِّي نفسه بالاستغناء عن الناس ولا يسعى من أجل ذلك، ينام حالماً بالغِنى، وينهض من نومه وهو يحلم به، ويقضي أيامه يحلم بأن يأتيه الرزق وتمطر عليه السماء مالاً وهو جالس على الكَنَبة دون سعي وعمل، وتُعرَضُ عليه الأعمال فيرفضها ويمَنّي نفسه بأفضل منها، ويبقى على فقره وحاجته. فهذا شَرُّ الفقر، ولا فقر أشَرُّ منه. وما يؤسف له أن هذا الصنف من الناس ليس قليلاً.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي