
رُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنِ اسْتَصْلَحَ الْأَضْدادَ بَلَغَ الْمُرادَ".
معادلة أخرى يكشف عنها الإمام (ع)، تربط بين استصلاح الضّدِّ ومعالجة التباينات معه وتحويله من عدو إلى ولي، وبين بلوغ المُستصلِح مرادَه وتحقيقه أهدافه، وتكشف عن حقيقة مهمة لا يجوز أن تخفى على العاقل اللبيب وهي أن التناقضات مع الآخرين ليست بالضرورة أن تكون عائقاً صلباً لا يمكن ازالته، وأن الضد من الناس ليس بالضرورة أن يكون صعباً إيجاد مساحة مشتركة معه، ففي الإمكان جعل التناقضات منطلقاً لصياغة تفاهمات، وجعل الأضداد أصدقاء أو أولياء، والتجربة الإنسانية تشهد لذلك، فكم من خلاف أدى إلى ائتلاف، وكم من عدو صار ولياً.
ويشهد لذلك أيضاً القرآن الكريم، فإن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴿الحُجُرات: 13﴾ فالآية الكريمة تُرسي قاعدة قرآنية كُبرى في النظرة العامة إلى الناس على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وقومياتهم وجغرافياتهم وخصوصياتهم وثقافاتهم، وتؤكد على أن التنَوُّع مُراد لله تعالى، تقتضيه حكمته في الخلق، ولم يحدث هذا التنَوُّع خاراج إرادته، أو نتيجة عوامل وأسباب خارج سلطانه، بل الله أراده وشاءه وأوجده، وتؤكد أيضاً أن الغاية من هذا التنَوُّع أن يتعارف الناس، ويجتمعوا على قناعات وأرضيات وأهداف مشتركة، في الوقت الذي يكون لك منهم ميزاته وخصائصه، فاختلاف ألسنتهم وألوانهم ليس الهدف منه الخصام والعداء والتناقض الكلي الذي يؤدي إلى الحروب المستمرة الأبدية، ويصنع جُدُرًا عالية بينهم، بل هو سبب لتعارفهم والوئام بينهم.
إقرأ أيضاً
وهذا بالضبط ما تدعو المعادلة إليه، وهو ضرورة أستصلاح الضِّدّ، ويعني ذلك أن يبادر المَرء إلى أضداده في ليوجد مساحة مشتركة ترفع الخلاف المحتدم بينه وبينهم، وتؤسس لعلاقة قائمة على احترام كل منهم للآخر من موقع الاختلاف عنه، ومن موقع الحفاظ على خصوصية كل منهم.
ولا نقاش في أن استصلاح الضد لا يتيسَّر إلا بالحوار، وفهم الآخر، والتفاهم معه، والتَّفهُّمِ له، والتجاوز عن صغائر أموره، ولا يمكن أن يكون بالقهر والغَلَبَة، أو بالجفاء والقطيعة، أو بتشييد السُّدود العالية بينه وبينه، أو بالخويف منه، أو رفض الاعتراف بخصوصياته، أو القول أنه ليس على شيء، كما يفعل الأغبياء والحمقى الذين يلعب الغرور الأجوف بعقولهم فيُخَيَّل إليهم أنهم صِنف خاص من البشر، وأن سواهم أدنى رُتبة منهم في البشرية والإنسانية، هذا الصنف من الناس لا يمكنه أن يستصلح ضِداً، ولا أن يبني جسور تواصل وتعاون مع الآخرين، وينتهي به الحال إلى التقوقع والانعزال، وكلاهما يؤديان إلى الخوف المقيم والقلق الدائم على المصير، ويؤديان بالفرد والجماعة إلى الضمور والاضمحلال نهاية المطاف.
والمعادلة التي بين أيدينا تدعو إلى إدراك أن التناقضات جزءٌ لا يتجزأ من الوجود، وأن تجاوزها لا يعني إلغاءها بل تنظيمها وصياغتها في إطار شامل يخدم المصلحة العليا للمجتمع والأمة والأمم.
كما تدعو إلى إدارة الخلافات والنزاعات بالحوار والاعتدال بدلاً من التصعيد الدائم والصدام المتواصل، وتؤكد لنا أن الإصلاح الحقيقي للمجتمع يقوم على قدرة القيادات والأفراد على تقريب وجهات النظر المتباينة، مما يؤدي إلى وحدة الهدف وتماسك النسيج الاجتماعي والوطني.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: