
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ صَبَرَ عَلى مُرِّ الْأَذى أبانَ عَنْ صِدْقِ التَّقْوى".
تعكس هذه المعادلة جوهر العلاقة بين الصبر على الأذى وتقوى الله، فواحد من الكواشف عن تقوى الإنسان صبره على أذى من يؤذيه، دون أن يبادر هو الآخر إلى رد الأذى بالأذى، أي إنه يتحمَّل الأذى في جنب الله، يصبر ويحتسب أمره إلى الله تعالى.
وما من شك في أن الصبر من أعظم الفضائل وأسناها، ومن أنبل سجايا الإيمان وأعلاها، حتى اعتُبِر الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ورُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "الصَّبرُ أحسَنُ حُلَلِ الإيمانِ، وأشرَفُ خَلايِقِ الإنسانِ".
والحياة كلها تقوم على الصبر، فما من أمر يريده المرء إلا ويحتاج فيه إلى الصبر، يصبر عليه وهو يطلبه، ويصبر عليه وهو ينجزه، ويصبر عليه حتى تتحقق نتائجه ويؤتي أكُلَه، وما من أزمة يعبرها إلا ويحتاج معها إلى الصبر، وما من مصيبة يُصاب بها إلا وتحتاج إلى الصبر، وما من بلاء يُبتَلى به إلا ويحتاج إلى الصبر، فالصبر هو المَطِيَّة التي يمتطيها الإنسان ليبلغ غايته المنشودة، وهذا الصبر عام كما ترى قارئي الكريم.
في جوهرته الكريمة لا يتحدث الإمام (ع) عن الصبر بمعناه العام، بل عن الصبر على الأذى، أي الصبر في لحظة الألم والظلم والمرارة، عندما تمتد يد أو لِسان الطيش أو الجهل أو العدوان إلى كرامة الإنسان أو جسده أو رزقه أو أي شأن من شؤونه، مما يحمل إليه المرارة والشعور بالقسوة "مرّ الأذى"، وهو تعبير يجسد التجربة الحسية والروحية للألم، ذلك أن الأذى لا يمر على النفس مروراً عابراً، بل يترك فيها مرارة حقيقية، تحتاج إلى قوة باطنية معنوية هائلة لتُحتمل.
مع هذا الصبر على "مُرِّ الأذى"، يتجلّى "صدق التقوى"، فالتقوى هي أن يكون المرء حيث يحب الله، وألّا يكون حيث يكره، والله يحب للمرء أن يصبر، ويتجاوز، ويصفح، ويمرَّ مرور الكرام على المواقف المؤذية، لأنه إذا قابل الأذى بالأذى، صار مماثلاً للمؤذي، ولم يمتز عنه بفضيلة، والفضائل لا تثبت حقيقتها إلا في لحظات الاختبار والابتلاء، كذلك التقوى الصادقة لا تظهر في الهدوء والطمأنينة، بل في مرارة الابتلاء.
التقوى نمط حياة، وميل دائم إلى الله، وإيثار للحق على هوى النفس، ومما يكشف عن أن هذه التقوى صادقة وليست مُدَّعاةٍ، هو الصبر العام والصبر على الأذى بشكل خاص، وبهذا ينكشف لنا أن الصبر ليس عجزاً ولا ضعفاً، ولا قبولاً بالأذى، بل هو قوة في النفس، ورباطة جأش، وسمو أخلاقي، ورفض للانحدار إلى درك ردود الفعل الغريزية، فالإنسان التقي إذا أوذي لا يرد بالمثل، لا لعجزه عن ذلك، بل احتراماً لنفسه، وتخلَّقه بأخلاق الله، لأنه يرى أن الله أولى أن يُرضى، وأن الحق أولى أن يُتبع، حتى وإن جرّ عليه ذلك أَلَماً وظُلماً.
الصبر على الأذى، من منظور الإمام أمير المؤمنين (ع)، ليس سلوكاً ظرفياً، ولا وسيلة تخفِّف وقع الأذى في نفسه، بل هو كاشف عن نضج الإنسان العقلي، وسمُوِّه الروحي، وقوته المعنوية، فهو امتحان يومي متواصل لنضجه وقوته المعنوية، لا يعني ذلك أن الإنسان لا يشعر بالألم، أو لا يتأثر بالأذى، ولكن الفرق بين من يملك التقوى ومن لا يملكها هو في كيفية التعاطي مع الألم والأذى، فالتقي يرى في الصبر مرقاة يرتقي عليها في أخلاقه، وقُربةً يتقرَّب بها إلى الله، وغير التقي يُسقِطُه الأذى من عليائه، وينال الألم من سُمُوِّه.
قد يبدو الإنسان تقياً ما دام لم يُختبر، ولكن متى ما أُوذِي، انكشفت حقيقة التقوى لديه، فمن الناس من تنهار تقواه حين تُمَسُّ مصالحه، أو تُخدش كرامته، أو يُظلم بلا ذنب، فيرتد إلى الغضب الأعمى أو الانتقام الغريزي، أما التقي الصادق في تقواه، حين يواجه الأذى لا يتنازل عن أخلاقه، بل يتحمّل الألم، ويجعل من صبره شهادة صدق سمو أخلاقه، وصدق تقواه، وأن صبره بذاته سير إلى الله تعالى، وعبادةً يعبده بها، ومرقاة تقرِّبه منه سبحانه.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي