
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ أسَّسَ أَساسَ الشَّرِّ أَسَّسَهُ عَلى نَفْسِه".
معادلة أخرى ينبهنا الإمام أمير المؤمنين إليها ليحذرنا من مغبة افتعال الشرِّ وإرادته بالآخرين، والتأسيس له، وسَنِّه كُسُنَّة تجري في الناس، وليحمّلنا المسؤولية عَمّا يكون منا من أفعال وأقوال وسُنَنٍ ترجع بالشر والسوء على المجتمع وعلى الأجيال، وأن أول من ترجع إليه تلك الشرور هو الذي يؤسس لها ويدعمها بما تحتاج إليه من إمكانيات وقدرات.
هذه المعادلة دائمة، مطَّردة، لا تقتصر على زمان ولا مكان، بل تمتد عبر الأزمنة، وتشمل كل الأمكنة، وتجري على كل فرد أو جماعة من بني الإنسان، حين يتوفَّر شرطها وركنها، كل من يبغي شراً بغيره، أو يؤسس له، فسيكون هو أول ضحاياه، وإذا ما تأخَّر جريانها بعض الشيء فلحكمة ربانية، كأن يكون إملاء له واستدراجاً إلى مزيد من الشَّرِّ كي يكون سقوطه مُريعاً ونهائياً، في هذه الأثناء قد يحسب الفاعل للشَّرِّ والمؤسس له أنه القوة التي لا تُقهَر، والجبروت الذي تخضع له الجماعات والشعوب، والأوحد الذي يرفع من يشاء ويحط من يشاء، وقد يحسب أنه قادر على كل شيء، فيمعن في شَرِّه ويحسب أن لا أحد من البشر قادر عليه، وأن الأمور كلها طوع يمينه وسلطانه، ولكنه ينسى أن الله فوقه، يراه، ويعلم كل ما يكون منه، ولا يرضى بظلمه وفساده وشرِّه، ولكنه يمهله، ويملي له، ويستدرجه إلى حيث لا يحتسب ولا يعلم، ثم يأخذه أخذ عزيزٍ مقتدر.
إقرأ أيضاً:
هذا بالضبط ما جاء في القرآن الكريم حين ذكر لنا هذه (السُّنَّة) حيث قال تعالى: اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴿43﴾ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴿44﴾ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴿فاطر:45﴾.
وقال تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ﴿النحل:26﴾.
وقال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿50﴾ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿51﴾ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿النمل:52﴾.
وإنما نسب الله سبحانه إليه إنزال العذاب بهم، وتدمير بنيانهم من القواعد، لأنه هو تعالى الذي سَنَّ تلك السُّنَّة، وهو الذي أوجد هذه القانون، وهو رجوع الشَّرِّ على صاحب الشَّرِّ والساعي به وفيه، فمن يؤسِّس له لا يمكنه أن ينجو من آثاره، لأن الشر فيه، ومنه انطلق نحو الغير، وجعله ينمو في أوساط الآخرين، وحين يفشو الشر وينتشر لن يكون هو في مأمن منه أبداً.
إن من يبني سلطانه على الظلم والشر سيعاني هو من فقدان الأمن والاستقرار، ومن يروِّج للانحلال الأخلاقي عبر وسائل الإعلام والإعلان لن يكون هو في مأمن منه، ولا أسرته وأولاده، ومن يشوِّه سمعة الناس أو يضلِّل الرأي العام فلن ينجو هو من تشويه السُّمعة أيضا لأنه هو الذي جرَّ الآخرين إلى ذلك.
ونلاحظ هنا أن الإمام أمير المؤمنين (ع) لا يتحدث عن فعل الشَّرِّ وحسب، بل عن التأسيس للشَّرِّ، وذلك يعني أن يحوِّل الشَّرَّ إلى منظومة متكاملة تنشر الشَّرَّ والفساد والظلم والجور والانحلال الأخلاقي في الناس وبين الشعوب والأمم، فإن جريمة هذا أعظم بلا شك من جريمة من يرتكب شراً لوحده، لأن شرَّه غالباً ما يكون محصوراً في بقعة من الأرض، ولا تطال تأثيراته عدداً هائلا من الناس، أما الذي يؤسس للشَّرِّ فإن أثر شرِّه يمتدُّ طويلاً من حيث الزمان، وبعيداً من حيث المكان، وإن كان هو يصير أول ضحايا شرِّه.
ولذلك نجد نقرأ في زيارة عاشوراء التي نزور بها الإمام الحسين (ع): *فَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً أَسَّسَتْ أَساسَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً دَفَعَتْكُمْ عَنْ مَقامِكُمْ وَأَزالَتْكُمْ عَنْ مَراتِبِكُمُ الَّتي رَتَّبَكُمُ اللهُ فيها، وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً قَتَلَتْكُمْ، وَلَعَنَ اللهُ الْمُمَهِّدينَ لَهُمْ بِالَّتمْكينِ مِنْ قِتالِكُمْ*. فإننا نجد في النَّص حالتين ملعونتين: حالة أسَّسَت الشَّرَّ، وحالة مضت عليه وقاتلت خير خيار الأمة، ومن بعدهما ظل الأشرار يقتلون الأخيار إلى يومنا هذا.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي