
في قلب التحولات الجارية في
الشرق الأوسط، تبرز إشارات متزايدة إلى أنّ اسرائيل بموافقه ودعم أمريكي تعمل على فتح جبهات متزامنة لإشغال الجيوش العربية والإسلامية، وتفريغ
الساحة الفلسطينية من مقوّماتها البشرية والقتالية. ما يبدو مجرد "أزمات متفرقة" قد يتكامل في مشهد واحد: مشهد يعيد صياغة الخريطة السياسية ـ الديموغرافية، ويضع مصر والجزائر والسودان في صدارة اختبار تاريخي خطير.
مصر وإثيوبيا: معركة النيل كأداة لتفريغ سيناء
منذ سنوات يشكّل سدّ النهضة الإثيوبي عنواناً لواحدة من أعقد الأزمات الاستراتيجية التي تواجه القاهرة. لكنّ القراءة الأعمق تكشف أنّ تفاقم هذا النزاع يمكن أن يُستخدم كوسيلة لـ إشغال الجيش المصري بعيداً عن حدود غزة. فبينما يُستنزف الجيش على جبهة مائية ـ جيوسياسية جنوباً، قد يُدفع الفلسطينيون قسراً للتكدّس على حدود سيناء، ثمّ يُفتعل "خرق" في الجدار الفاصل، ليُوضع الجيش المصري أمام خيار واحد: ترك الغزّاويين يعبرون أو الدخول في مواجهة لا أخلاقية مع شعب محاصر. هنا يتحقق الحلم الصهيوني القديم: إفراغ غزة بلا ضجيج، وتحويل سيناء إلى حقل لجوء قسري.
إقرأ أيضاً:
الجزائر والصحراء الغربية: استنزاف المغرب العربي
التوتر المستمر بين الجزائر والمغرب حول ملف الصحراء الغربية ليس جديداً، لكنّ إعادة تسخينه الآن يوفّر وظيفة استراتيجية: إشغال الجزائر في معركة حدودية تستنزف جهدها الدبلوماسي والعسكري، وتحيّد قدرتها على دعم القضايا المركزية، وعلى رأسها فلسطين. أي تصعيد بين الجزائر وجبهة البوليساريو يعني دفع أكبر قوة عسكرية في شمال أفريقيا إلى حرب استنزاف جانبية، بما يصبّ في صالح مشروعٍ يريد الشرق الأوسط خالياً من داعمٍ صلب للمقاومة.
السودان: حرب الداخل التي تفتح أبواب الخارج
منذ اندلاع الصراع بين الجيش بقيادة البرهان و"قوات الدعم السريع"، تحوّل السودان إلى ساحة تفكيك ممنهج للدولة الوطنية. في ظل هذه الفوضى، تنشط شبكات السلاح والتهريب، وتُفتح قنوات للتدخل الإقليمي والدولي. انشغال السودان بجراحه الداخلية يجعله عاجزاً عن لعب أي دور في القضية الفلسطينية أو في المعادلات الإقليمية الكبرى، بل يتحول إلى نموذج يُستنسخ لإظهار أن "تفكيك الجيوش" هو المدخل الأضمن لإضعاف الممانعة.
الطائرات الإسرائيلية في أذربيجان: اللوجستيات الخفية
على الضفة الأخرى، تعمل إسرائيل على تأمين خطوط إمداد استراتيجية بعيدة عن الأعين. الرحلات الجوية العسكرية–التجارية بين تل أبيب وباكو ليست مجرد تنسيق طبيعي، بل تمثل قاعدة خلفية لتخزين السلاح والذخائر، وربما فتح جبهة شمالية في لحظة مناسبة. هذا البُعد اللوجستي يعكس عقلية "الحرب البعيدة–القريبة": الإعداد في أطراف آسيا الوسطى لفرض وقائع على المتوسط وغزة.
الخلاصة: نحو معركة مصيرية
إذا جمعنا هذه الخيوط معاً ـ سدّ النهضة جنوباً، الصحراء الغربية غرباً، الحرب الأهلية في السودان، واللوجستيات العسكرية في أذربيجان ـ نجد أنفسنا أمام لوحة استراتيجية مرسومة بعناية: إشغال الجيوش وإرباك الدول، لتصفية الساحة الفلسطينية.
المسألة ليست مجرد صراعات محلية، بل هي حرب مركّبة تُدار بالوكالة والضغط المتزامن، بهدف جعل الفلسطينيين أمام قدر التهجير، وجعل الشعوب أمام واقع جديد يصعب التراجع عنه.
هنا تبرز المسؤولية التاريخية:
▪️أن يدرك المثقف العربي أنّ ما يجري ليس صدفة، بل مخطّط لقطع شريان القضية الفلسطينية.
▪️أن تتحرّك القوى الشعبية والإعلامية لكشف هذه الاستراتيجيات قبل أن تتحول إلى وقائع ميدانية.
▪️أن تُعيد الدول المحورية حساباتها، فلا تُستدرج إلى حروب جانبية قد تُسقط فلسطين من قلب المعادلة.
إنها معركة الوعي قبل أن تكون معركة السلاح. ومن يربح الوعي، يربح البقاء.
بقلم الباحث والكاتب السياسي اللبناني "جواد سلهب"