ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

مَنْ كَثُرَ مُناهُ قَلَّ رِضاهُ

22:38 - October 24, 2025
رمز الخبر: 3502143
بيروت ـ إکنا: مما لا شك فيه أن الحياة الإنسانية مبنية على التوقع والرجاء، فما من إنسان إلا وله آمال يتطلع إليها، غير أن الإمام أمير المؤمنين (ع) يكشف عن معادلة بالغة الأهمية: "مَنْ كَثُرَتْ مُنَاهُ قَلَّ رِضَاهُ".

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ كَثُرَ مُناهُ قَلَّ رِضاهُ".
 
كي تتضح لنا هذه المعادلة التي يُبتلى بها كثير من الناس، يجب أن نعرف المراد من الأمنية، ثم نفرق بينها وبين الأمل.
 
المنى: هي التطلعات الباطنية التي ينشدها الإنسان، غالباً في المدى البعيد. والأماني: جمع أمنية، وهي الصورة الذهنية لما يتمناه المرء، سواء أكان ممكناً أو مستحيلاً. وجاء في مفردات الراغب الأصفهاني: "التمني تقدير الشيء في النفس وتصويره، وقد يكون مع حرص، وقد يكون مع كسل". 

إقرأ أيضاً:

والنتيجة هي: أن المنى والأماني كلتاهما وهم وخيال وادعاء، وتطلقان على مطلق ما يُشتهى، ولو كان مستحيل التحقق. قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿111﴾ بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿البقرة: 112﴾.

الشاهد في الآيتين الكريمتين قوله تعالى: "تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ" فقد كانت اليهود تقول: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً - أي من يهود - وكانت النصارى تقول: لن يدخل الجنة إلا من كان من النصارى. وهذه المقولة كتلك، لا تستند إلى دليل، سوى الادعاء العريض! ومن ثم يلقِّن الله رسوله (ص) أن يطالبهم بالدليل: "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" ثم يقرر الله سبحانه في الآية التالية القاعدة الكبرى في الجزاء على العمل، والتي ليس فيها محاباة لأمة ولا لطائفة ولا لفرد؛ فمن أخلص ذاته لله، ووجه مشاعره كلها إليه، وأطاع الله قولاً وفعلاً، وجمع بين الإيمان القلبي والإحسان العملي، فهو من أهل الجنة. تلك هي القاعدة العامة التي يستوي عندها الناس جميعاً، فلا محسوبية عند الله سبحانه ولا محاباة!

أما الأمل: فهو التوقع لشيء حسن في المستقبل، وغالباً ما يتصل بما هو ممكن الحصول، فهو تطلع إلى أمر واقعي قريب التحقق.
 
والفرق بينهما واضح، فالأمنية هي تطلع نفسي، وخيال وادعاء، وليس لها واقعية، بل هي أقرب إلى الوهم، ويصاحبها الكسل عن العمل. بينما الأمل فهو تطلع إلى أمر ممكن الحصول، يدعو إلى العمل لتحقيقه في الواقع الخارجي.
 
ومما لا شك فيه أن الحياة الإنسانية مبنية على التوقع والرجاء، فما من إنسان إلا وله آمال يتطلع إليها، غير أن الإمام أمير المؤمنين (ع) يكشف عن معادلة بالغة الأهمية: "مَنْ كَثُرَتْ مُنَاهُ قَلَّ رِضَاهُ". فالمُنى هي التطلعات التي تصنعها النفس في خيالها، وهي تتكاثر بلا حد معقول، وتعبر عن عطش دائم لما لا يملكه الإنسان، لكنها حينما تزداد، يزداد معها الفارق بين الواقع والمأمول، فيصغر الرضا في قلب الإنسان، فيجد نفسه ساخطاً على ما بين يديه، مهما كان كثيراً.
 
إن الرضا شعور نفسي لا يولد من وفرة الأشياء، ولذلك قال الإمام أمير المؤمنين (ع): "القَنَاعَةُ كَنْزٌ لَا يَفْنَى" فإذا استسلم المرء لجموح الأماني، فلن يعرف طعم الاكتفاء، لأن كل وصول عنده مجرد محطة انتظار لمزيد من الوصول، وهكذا يصبح العيش سلسلة من الظمأ المتجدد الذي لا يقف عند حد معقول.
 
المعادلة التي يرسمها الإمام (ع) لا تنهى عن الأمل المشروع ولا عن الطموح البناء، بل تحذر من المبالغة في التمني الذي يبدِّد العمر في أفق لا نهاية له، ويؤدي إلى الكسل عن العمل، ويحول الإنسان إلى ساخط على الواقع، بل ساخط على الله تعالى؛ فمن يشتهي كل شيء لن يرضى بشيء، ومن يقيس سعادته على الامتلاك المطلق لن يعرف للسكينة طعماً.
 
وقد لخّص علماء النفس الحديث هذا المعنى بقولهم: إن الإنسان الذي يركز على "ما ينقصه" يظل أسير الشعور بالعوز مهما نال، بينما الذي يركز على "ما يملكه" يعيش شعوراً نفسياً بالغنى، يجعله أكثر رضى وأقرب إلى السعادة. وهذا بالضبط ما أضاءه الإمام علي (ع) بعبارة وجيزة: كثرة الأماني تقلِّل الرِّضا.

بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي
captcha