
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنِ اشْتَغَلَ بِما لا يَعْنيهِ فَاتَهُ ما يَعْنيهِ".
تحثُّ هذه الجوهرة الكريمة الإنسان على تركيز جهده ووقته في الأمور النافعة والمهمة، وتجنُّبِ إضاعة الوقت والطاقة والجهد في القضايا الهامشية التي لا تعود عليه بالفائدة.
إنَّ الانشغال بتوافه الأمور ومتابعة ما لا فائدة منه، يؤدي حتماً إلى تفويت المصالح الأساسية والواجبات المهمة، فالعقل والوقت والجهد، كلها موارد محدودة، إذا استُنفدت في غير مواضعها الحقيقية والضرورية، ضاع ما هو أهم وأولى بالعناية، وقد وصف الإمام أمير المؤمنين (ع) هذا المنهج بقوله: "أُطْلُبْ مَا يَعْنِيْكَ وَاتْرُكْ مَا لا يَعْنِيْكَ، فَإِنَّ في تَرْكِ مَا لا يَعْنِيْكَ دَرْكُ مَا يَعْنِيْكَ".
وجاء عن رسول الله (ص) أنه قال: "مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيْهِ" فهذه جملة قصير على وجازتها تقدِّم لنا قانوناً للحياة الواعية الناجحة، وميزاناً دقيقاً يزِنُ به الإنسان أموره وجهوده وخطواته في الحياة، وما يجب أن يهتم به ويُقبِل عليه، ويصب جهوده في مجرى تحقيقه، وما يجب أن يتجنَّبه مِمَّا لا فائدة مَرجُوَّة منه، حذراً من تضييع جهده، وانفاق وقته فيما لا ثمرة له، وتعتبر ذلك واحدة من علامات الإيمان، فالمؤمن يُدرك قيمة الوقت والجهد، ويُدرِك أنهما نعمتان عظيمتان من نعم الله عليه، وأنَّ الله سائله عنهما، سائله عن عمره فيما أفناه، وعن بدنه فيما أبلاه، لذلك ينصرف إلى الاهتمام بما يعنيه ويتجنَّب ما لا يعنيه.
حين ينشغل المرء بما يعنيه، من علم ينفعه، أو عمل يُنجزه، أو عبادة يُسعَد بها في دنياه وآخرته، أو صلة رحم، أو عيادة مريض، أو إعانة فقير، أو مساعدة محتاج، يضع طاقته فيما ينفعه حقاً، واهتمامه بما يعنيه يجمع شتاته، ويركّز بصره على وجهته، فلا يبدد قواه في سراب، وبهذا يتحوَّل العمر من مجرد أيام تنقضي إلى وقت يزرع فيه ليقطف ثمراً جَنِياً.
أمّا حين ينصرف إلى ما لا يعنيه، من فضول يجرُّه إلى تتبع عيوب الناس، واهتمام بما في أيديهم، وجدل يستهلك فكره في غير طائل، وتفاهات تُثقِل كاهله، وتجلب إليه المتاعب والخصومات، وقلق على ما لا يملك تغييره، كل ذلك يُدخله متاهة لا سبيل إلى الخروج منها، ودوَّامة تعصف به وتُرديه، وتَشَتُّتٍ يُضعِف عزمه، وخَسارة للعمر وهي أعظم الخسارات، فيجد نفسه عند النهاية فارغ اليدين، وقد ذهب عمره دون أن ينُجِزَ فيه شيئاً.
ومن لوازم هذا الانشغال بما لا يعنيه أن يفقد المرء احترامه لذاته، إذ يرى نفسه صغيراً منشغلاً بالصغائر لاهياً عن الأمور العظيمة التي لها الأولوية، ويفقد احترام الناس له إذ يرونه فضولياً يحشر أنفه في أمورهم، ويتعقَّب خصوصياتهم.
لهذا فإن الحكمة كل الحكمة أن يتعلّم المرء كيف يميّز بين ما يخصّه وما يعنيه، وما لا يخصُّه ولا يعنيه، وكيف يوجِّه اهتمامه صوب ما ينفعه، فالعمر قصير، والوقت أعزّ ما نملك.
وأُنَبِّه إلى أن ترك المرء ما لا يعنيه، لا يعني العزلة عن الناس، ولا عدم الاهتمام بشؤونهم، فإنه والناس كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء، بل هو حضور أرقى بينهم وأسمى، وأكثر فائدة له ولهم، هو أن يكون قريباً من القلوب، يعين ويُنجِد من غير تَطَفُّل، ومن غير انتهاك لخصوصية، ويحاور ويناقش، ويُفيد ويستفيد، ويشارك الآخرين همومهم، لكن دون أن يتخطّى حدود الحاجة واللَّياقة، ويدرك أن لكل إنسان مساحته الخاصة التي لا يجوز اقتحامها، وأن من المروءة أن يحفظها لصاحبها.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي