ایکنا

IQNA

 جواهر عَلَويَّة...

مَنْ رَقى دَرَجاتِ الْهِمَمِ عَظَّمَتْهُ الأُمَمُ

23:28 - November 04, 2025
رمز الخبر: 3502299
بيروت ـ إکنا: إنّ الهمّة العالية هي التي تميّز الإنسان عن الحيوان؛ فالحيوان يبحث عن إشباع غرائزه فقط، أمّا الإنسان فبإمكانه أن يتّجه نحو المعاني السامية والمبادئ والقيم الراقية. فكلّما عَلَت همّتُه ارتفعت قيمتُه الإنسانية.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ رَقى دَرَجاتِ الْهِمَمِ عَظَّمَتْهُ الأُمَمُ".
 
في هذه الجوهرة الكريمة يقدِّم لنا الإمامُ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) رؤيةً عميقةً لقيمة الإنسان ومكانته بين الناس، تُشكِّل معياراً لإنسانيته وكرامته. فحقيقة الإنسان وقيمته لا تتأتَّيان ممّا يملكه من مالٍ ومتاعٍ ومكتسباتٍ ماديةٍ دنيوية، بل تتأتَّيان من عزيمته وإرادته وطموحه، ومن نفسه الأبيّة التي تتوجَّه نحو المعالي من الغايات. تتأتَّيان من تلك الطاقة التي تدفعه نحو الخير والفضيلة والعمل الصالح؛ فالإنسان الكريم هو مَن سَمَت همّتُه، وارتفعت غاياته، ونبُلَت أهدافه.

هذه الرؤية الكريمة تُعارض النظرة السائدة في المجتمعات المادّية التي تقيس الناس بثرواتهم وممتلكاتهم ومظاهرهم الخارجية. فالإنسان قد لا يملك إلّا القليلَ القليل، وقد لا يملك شيئاً، لكنّه يكون عظيمَ الهمّة، يتطلّع إلى تحقيق أهدافٍ إنسانيةٍ نبيلة. وقد يملك أموالاً طائلةً، لكنّه يكون وضيعَ الهمّة، منشغلاً بالأمور الحقيرة وسفاسفها، أقصى رغباته أن يحوز المال، أو أن يأكل ويشرب ويستمتع بالحياة كما تستمتع البهائم. فالعِبرة بالجوهر لا بالمظهر.
 
الهمّة العالية هي التي تميّز الإنسان عن الحيوان؛ فالحيوان يبحث عن إشباع غرائزه فقط، أمّا الإنسان فبإمكانه أن يتّجه نحو المعاني السامية والمبادئ والقيم الراقية. فكلّما عَلَت همّتُه ارتفعت قيمتُه الإنسانية.
 
والهمّة هي المحرِّك الأهمّ الذي يدفع الإنسان نحو الأعمال العظيمة والإنجازات الخالدة. فصاحب الهمّة العالية يبني ويُبدع ويخدم الآخرين، ويتطلّع إلى المُثُلِ العليا، بينما صاحب الهمّة الدنيئة — وإن كان ثريّاً — فإنّه غالباً ما ينحدر إلى الجشع والأنانية والفساد.
 
على أنّ الهمّة ليست طموحاً عابراً أو رغبةً في تحقيق أمرٍ من الأمور وحسب، بل هي حالةٌ نفسيةٌ وفكريةٌ تجعل الإنسان يتطلّع دوماً إلى المعالي، ويبحث عن المعاني السامية في كلّ ما يقوم به. إنّها تلك الشحنةُ المعنوية التي تدفع الإنسان إلى تخطّي حدود المألوف، والارتقاء فوق مستوى الشهوات الصغيرة والاهتمامات التافهة.
 
وتتجلّى همّةُ الإنسان في أخلاقه وسلوكه؛ فهو لا يرضى بالدون من الأمور، ولا يرتضي لنفسه إلّا معالي الأخلاق، ولا يرضى بالقليل من العلم والمعرفة، بل يسعى إلى المزيد منهما. ولا يكتفي بعملٍ صالحٍ واحد، بل يجعل حياتَه كلّها مشحونةً بالباقيات الصالحات، ويمضي بجِدٍّ أكيدٍ، وعزيمةٍ لا تفتر، في إصلاح نفسه وتهذيبها، وإصلاح مجتمعه والارتقاء به في مختلف المجالات. وهو قبل ذلك وبعده يتوجّه إلى الآخرة في كلّ نَفَسٍ يتنفّسه، وفي كلّ عملٍ يعمله، يطلب بذلك رضا الله والجنّة. يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): "لَيْسَ لِنُفُوسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ، فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا".
 
إنّ صاحب الهمّة العالية يشبه النسر الذي يحلّق في الآفاق العليا، لا يرضى بالبقاء في الأودية المنخفضة، ولا يلتفت إلى ما تلتقطه الطيور الصغيرة من حبوبٍ متناثرةٍ على الأرض. همّتُه تجعله يرى في كلّ صباحٍ فرصةً جديدةً للعطاء، وفي كلّ تحدٍّ سلّماً يرتقي به إلى مراتب الكمال. فالهمّة العالية تمنح صاحبها أفقاً واسعاً، وقدرةً على تجاوز العقبات، وتأثيراً في الآخرين، وخلوداً في ذاكرة الأمم، كما تشير الجوهرة التي تصدَّرت هذه المقالة.
 
وتكمن أهميةُ عُلوّ الهمّة في أنّها تُحوِّل الإنسان من كائنٍ سلبيٍّ يتلقّى الأحداث، إلى فاعلٍ إيجابيٍّ يصنع التاريخ، ليكون ذا بُعدٍ استراتيجيٍّ في التفكير، وإصرارٍ وعزيمةٍ، مترفِّعاً عن الصغائر، مستعدّاً للتضحية، متوازناً في جميع أموره.
 
فمَن أراد أن يكون عظيماً عند الله وعند الناس، فعليه أن يترقّى في درجات الهمم، ففي داخل كلٍّ منّا طاقاتٌ كامنةٌ تنتظر من يُثيرها، وهممٌ نائمةٌ تنتظر من يُوقظها. وهي طريقُنا إلى تحقيق قول الإمام (ع): "مَنْ رَقِيَ دَرَجَاتِ الْهِمَمِ عَظَّمَتْهُ الأُمَمُ".

بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي
captcha