ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

مَنْ قَصُرَ عَنِ السِّياسَةِ صَغُرَ عَنِ الرِّئاسَةِ

22:19 - November 10, 2025
رمز الخبر: 3502379
بيروت ـ إکنا: إنّ السياسة الحَقّة لا تقومُ على الذكاءِ والدهاءِ وحسب، بل على اجتماعِ العقلِ والأخلاقِ والإرادة؛ فالعقلُ يهدي إلى المصلحة، والأخلاقُ تحفظُ السائسَ والمَسُوسَ من الانحراف، والإرادةُ تُترجِمُ ذلك إلى فعلٍ وسلوك.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ قَصُرَ عَنِ السِّياسَةِ صَغُرَ عَنِ الرِّئاسَةِ".
 
معادلةٌ أخرى يقرِّرها الإمامُ أميرُ المؤمنين (عليه السلام): تربطُ بين الرئاسةِ وما تحتاجُ إليه من مؤهِّلاتٍ ومهاراتٍ، ومن أهمِّها إتقانُ فنونِ السياسةِ والإدارة.
 
ومِمّا لا شكَّ فيه أنَّ إتقانَ فنونِ السياسةِ والإدارة يُعَدُّ شرطاً ضروريّاً للرئاسة؛ فالرئاسةُ لا تقومُ على النفوذِ والقوّةِ فحسب، بل على المهاراتِ والصفاتِ التي يتقنُها ويتحلّى بها القائدُ والرئيسُ والمدير.

السياسةُ بمعناها الحقيقيّ بعيدةٌ كلَّ البعدِ عمّا هو متعارفٌ اليوم من كونها مكراً وخداعاً ودهاءً، بل تعني: حُسنَ التدبير، وإدارةَ الأمورِ بمهارةٍ وإتقان، والعدلَ في الحكمِ بين الناس، والحكمةَ في اتخاذِ القرارات، والتعاملَ مع مختلفِ الناس كلٌّ بحسبه، وحبَّ الخيرِ لهم، وإكرامَهم واحترامَهم وخدمتَهم، والصدقَ معهم، والوفاءَ لهم، وامتلاكَ رؤيةٍ مستقبليةٍ وأهدافٍ واضحةٍ وتخطيطٍ دقيقٍ وسليم، وتوجيهَ طاقاتِ الأفرادِ والمجتمع نحو الخير، وتنميةَ قدراتهم ومهاراتهم وفضائلهم، وإصلاحَ ما فسد من أمورهم وأحوالهم.

وبكلمةٍ أخرى: السياسةُ هي فنُّ تدبيرِ شؤونِ الإنسانِ فرداً وجماعةً.
 
فمَن امتلك هذه المهاراتِ والصفاتَ كان أهلاً للرئاسة بلا شكّ، ومَن لم يمتلكْها افتقدَ الأهليةَ للرئاسةِ والقيادة؛ لأنَّ الرئاسةَ في الحقيقةِ ليست منصباً، بل أمانةٌ ومسؤولية، ولا يحملُ الأمانةَ إلّا مَن كان سديدَ النظر، رحبَ الصدر، واسعَ الفهم، قادراً على موازنةِ المصالحِ والمفاسد، حريصاً على الالتزامِ بالمبادئِ الكبرى الحاكمةِ على خياراتِه وتوجّهاته.
 
وقد جسّد الإمامُ أميرُ المؤمنين (ع) هذا الفهمَ في سيرته حين تولّى إدارةَ الأُمّة، فكتبَ إلى عمّاله وولاته رسائلَ تُعَدُّ إلى اليوم من أرقى ما كُتِبَ في الفكرِ السياسيِّ الأخلاقيّ، فقد جاء في عهده إلى مالك الأشتر ما لم يسبقه إليه أحدٌ، ولم يلحقه عليه أحد، ومن ذلك قولُه: "وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، أَوْ نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ".
 
فبهذه العبارة يرسمُ الإمامُ الحدودَ الأخلاقيةَ للسياسة؛ فليست هي سطوةً على الناس، بل رعايةٌ وحماية. والسياسيُّ في نظره ليس سيِّداً، بل راعٍ مسؤول، كما قال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله): "كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".
 
فمَن لم يتصفْ بهذه الروحيةِ في السياسة، فلن يبلغْ من الرئاسة إلّا ظاهرَها، وسيعجزُ عن التأثيرِ في الآخرين، بل سيعجزُ عن قيادتِهم.
 
السياسةُ الحَقّةُ لا تقومُ على الذكاءِ والدهاءِ وحسب، بل على اجتماعِ العقلِ والأخلاقِ والإرادة؛ فالعقلُ يهدي إلى المصلحة، والأخلاقُ تحفظُ السائسَ والمَسُوسَ من الانحراف، والإرادةُ تُترجِمُ ذلك إلى فعلٍ وسلوك.
 
ولذا كان من شروطِ السياسةِ الراشدة: البصيرةُ، والرؤيةُ النافذةُ، والنظرُ فيما وراء اللحظةِ الراهنة، واستشرافُ المستقبل، والتفكّرُ في الأمور، والتدبّرُ في العواقب، والعدلُ، والإنصافُ، والورعُ، والأمانةُ، والقدرةُ على التواصلِ مع الآخرين، والقدرةُ على الإقناع، والزهدُ في المنصب، والتجرّدُ عن الهوى. فالسياسةُ من دون ذلك تتحوّلُ إلى ارتجالٍ وعفويةٍ يُفضِيان غالباً إلى الفوضى والفشل.
 
الرئاسةُ الحقيقيّةُ عند الإمامِ أميرِ المؤمنين (ع) ليست جائزةً تُمنَحُ لكلّ طامح، بل ثمرةُ نضجٍ سياسيٍّ وأخلاقيٍّ؛ فمَن لا يُحسِنُ السياسةَ ـ أي لا يُحسِنُ التدبيرَ، ولا يملكُ فقهَ الواقع، ولا يعرفُ سننَ الاجتماع ـ يبقى قاصراً عن الرئاسة، غيرَ مؤهَّلٍ لحملِها، ولو اجتمع الناسُ حوله.

بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي
captcha