
تربط هذه الجوهرة الكريمة بين الغفلة والجهل، وبين الذكر والعلم، وتعرض الأمر بوصفه حقيقةً من حقائق الحياة الإنسانية؛ فالغافل لا يجهل لأنه لم يتعلّم فحسب، بل لأنه لا يتذكّر ولا يتفكّر.
ما الغفلة؟
جاء في تاج العروس للزبيدي: "الغَفْلَةُ: السَّهْوُ عن الشيءِ مع إمكانِ التنبُّه له، وقيل: الغفلةُ ضدّ التيقُّظ، وهي ذهابُ الذهن عمّا يُوجِبُ العِلمَ به".
فالغفلةُ إذن هي السهو عن الشيء مع وجودِ ما يُذكِّر به؛ فهي ليست نسيانًا عارضًا، بل انصرافٌ عن الأمر وعدمُ الاكتراث به، والانشغالُ بالعارض عن الجوهر، وبالظاهر عن الباطن. وبعبارة أخرى: الغفلة حالةٌ ذهنيةٌ تحجب الإنسان عن الانتباه إلى ما يحيط به، وما يُنادى إليه، وما يُستثار به ويدعوه للوعي؛ فهي نقيض الإدراك والتيقّظ، وغالبًا ما تُستَعمَل في سياق الذَّمِّ، لأنها تفيد الإعراض عن إدراك الحق أو تركَ التفكّر فيما ينبغي التفكّر فيه.
وأما الغافل فهو الذي لا يَتَنَبَّه لِما يُرادُ به من الخير أو الشر.
وقد يكون الإنسان الغافل ذكيًّا في شؤون دنياه، لكنه جاهلٌ بحقائق نفسه، وهدف وجوده، وما يجب عليه تجاه نفسه وتجاه خالقه، وتجاه دنياه وآخرته. ومن هنا قال الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنْ غَفَلَ جَهِلَ"، أي إن الغفلة ليست سببًا للجهل فحسب، بل هي صورتُه الباطنية؛ لأن القلب إذا غفل أظلم، وإذا أظلم عَمِيَ عن الحقائق، فصار الجهل مآله الطبيعي، إذ هو نتيجةٌ حتميةٌ للغفلة والانشغال بزخارف الحياة الدنيا عن التفكّر والتبصّر والتعلّم.
ولقد أولى
القرآن الكريم عنايةً خاصةً بمفهوم الغفلة، باعتبارها من أهم العوائق التي تُعيق حركة الإنسان في طريق تكامله، وتؤدي به إلى الإعراض ـ قسريًّا أو إراديًّا ـ عمّا يجب عليه، مما يفضي به إلى الضلال والضياع. فجعل الغفلة حجابًا يحجب الإنسان عن الحقائق الكبرى، عن حقيقةِ وجوده، وعن غايته التي يُساق إليها. قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ﴿الأنبياء: 1﴾.
وذكر تعالى أن الغفلة عن الله سببُها اتّباع الهوى والاستسلامُ للشهوات، ونهى عن اتباع الغافلين، فقال: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴿الكهف:28﴾.
فالغفلة في منظور القرآن الكريم ليست نقيض المعرفة فحسب، بل نقيض الحياة الواعية نفسها؛ لأن الوعي ليس مجرد ما يعرفه الإنسان، بل كيف يستثمر معرفته، وكيف يحيا وفق ما أدركه بيقين.
وقد تحدّث الإمام أمير المؤمنين (ع) عن الغفلة كاشفاً ماهيتها ومخاطرها، فوصفها بأنها "أَضَرُّ الأَعْداءِ"، وأنها "شِيْمَةُ الحَمْقى"، و "ضَلالُ النُّفوسِ"، و "عُنْوانُ النُّحوسِ"، وأنها "تُكْسِبُ الاغْتِرارَ، وتُدْني مِنَ البَوارِ".
كما نبّه الإمام الصادق (ع) إلى خطورتها، مشيراً إلى أنّ الشيطان لا يَكلّ ولا يَمَلّ في بحثه عن منفذٍ ينفذ منه إلى الإنسان ليضلَّه ويرديه، وأن الغفلة أوسع تلك المنافذ، فقال: "إن كانَ الشَّيْطانُ عَدُوّاً فالغَفلَةُ لِماذا".
إنسان اليوم، على الرغم من تقدّمه العلمي وتوسّعه في المعرفة، يبقى أسير الغفلة في الغالب؛ فقلّما يقف أحدهم ليسأل نفسه: إلى أين أمضي؟ وماذا أفعل؟ إنه غافل عمّا يحتاج إليه حقًّا في دنياه، فضلًا عن غفلته عن آخرته، وهذا هو الجهل، بل هو أعظم مصاديق الجهل.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي