ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "ثَباتُ الدِّينِ بِقُوَّةِ الْيَقينِ".
والناس في إيمانهم والتزامهم الديني صنفان:
صِنفٌ: إيمانه مُستَودَعٌ، شبيه بالوديعة التي يودعها المودع عند شخص مدة معينة ثم يستعيدها منه، أو عارية، فيكون شبيها بشيء يُعيره شخصاً ثم يسترجعه منه، وهذا تعبير عن الإيمان الظرفي المُؤَقَّت الذي ينتهي بانتهاء وقته، فلا دوام له ولا استقرار ولا ثبات، وهو قابل للنقصان لا للزيادة، وهذا ما نشاهده في كثير من الناس الذين يهجمون على التدين والالتزام لبرهة من الزمن، نتيجة حادث يحدث لهم أو فقد عزيز فيجدون أنفسهم ضعفاء في المِحنة فيلجؤون إلى الله لأنهم يشعرون بالأمان في كنفه، أو بلاء يُبتَلَون به فيضطرّهم إلى اللجوء إلى الله تعالى يستعينون به على الخروج منه بعد أن رأوا أن الأسباب المادية لم تنفعهم، كما لم ينفعهم من راهَنوا عليه من الناس، تقودهم إلى ذلك فطرتهم التي فطرهم الله عليها، لكنهم حين يخرجون من البلاء، ويتجاوزون آلام الحوادث، وينسون المصيبة التي حَلَّت بهم يتقهقرون في التزامهم ويرجعون إلى ما كانوا عليه من قبل.
إن هذا اللون من الإيمان لا ثبات له ولا دوام، إنه إيمان ظَرفِيٌّ أملته الظروف القاهرة التي مَرُّوا بها فإذا تبدَّلت الأحوال، وشعروا بالأمان، واتَّسعت أحوالهم ورغُد عَيشُهم نسوا الله وأعرضوا عنه، وقد عرض الله لنا هذه الحقيقة بقوله: "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿22﴾ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"﴿23/ يونس﴾.
فالآيتان الكريمتان تعرضان لنا مشهداً حَيّاً موحِياً كأنه يقع أمام أعيننا، ونشاهده بأبصارنا، ونتابعه بمشاعرنا، قوم تسير به سفينة في البحر الهادئة أمواجه، اللطيفة ريحه، وهم فَرحون جَذِلون مغتبطون، وفي هذه اللحظة تهبُّ العواصف، وتقصف الرعود، ويرتفع الموج كأنه الجبال، فتضطرب السفينة بهم، ويلطمها الموج العاتي من كل جانب، ويدور بها كالريشة الضائعة في الخِضَمِّ، ويتبدَّل الفرح إلى خوف، والأمن إلى هَلَع، ويوقِن راكبوها أنه قد أُحِيطَ بهم، وأن لا مجال للنجاة، هنا تتعرَّى فطرتهم مما شابها وأسكتها أيّام الرخاء والطمأنينة، وتنفض قلوبهم ما ران عليها من أوهام وتصورات، فلا يجدون ملجأً إلا الله، ولا مُخرجاً لهم من ورطتهم إلا الله، فيتوجَّهون إليه بدعاء خالص من أي شائبة، ويزيدون على الدعاء بأن يعاهِدوا الله لئن أخرجهم من نكبتهم ليكونُنَّ من الشاكرين الطائعين الصالحين.
ويستجيب الله لهم، فينتشلهم من مأساتهم، وتهدأ العاصفة، ويطمئن الموج، وتهدأ نفوسهم، وتصل السفينة بهم آمنة إلى بَرِّ الأمان، وما إن ينزلوا منها، وتطأ أقدامهم الأرض المُستقِرَّة حتى يرجعوا إلى ما كانوا عليه من قَبل، ولا يكتفون بالإعراض عن الله ونسيان فضله عليهم وإنجائه لهم، بل يبغون في الأرض بغير الحق، ويتجاوزون حدوده، ويظلمون عباده، والحقُّ أنهم لا يبغون إلا على أنفسهم، ولا يظلمون إلا أنفسهم. ومثل هؤلاء الذين عرض الله مشهدهم كثير، وإيمانهم ظرفي متقلقل لا ثبات له ولا دوام.
وصِنفٌ: إيمانه مُستَقِرٌ ثابت قوِيٌ راسخ، يزداد مع الأيام، تزيده الأيام ثباتاً واستقراراً، لا يتأثَّر بالظروف، ولا تتصرَّف به الأحوال المتغايرة، هو أشبه بشجرة كريمة تنغرس جذورها في الأرض مع كُرور الأيام، وتسمق وتعلو وترتفع، وتمتد أغصانها، ويتسع ظلها، وتجود بثمارها.
وما يَثْبُت إيمان هذا الصِّنف إلا لأنه يقوم على المعرفة اليقينية، وكلما تَعمَّق يقينهم وزاد تَعَمَّق إيمانهم وزاد. فلا إيمان من دون يقين، ولا ثباته له من دونه، وقد رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: "...واليَقينُ الإِيْمانُ كُلُّهُ" وسأل رسول الله (ص) جبرائيل (ع) عن اليقين فقال جبرائيل: "المُوقِنُ يَعمَلُ للَّه كأنّهُ يَراهُ، فإن لَم يَكُن يَرى اللَّهَ فإنّ اللَّهَ يَراهُ، وأن يَعلَمَ يَقيناً أنَّ ما أصابَهُ لَم يَكُن لِيُخطِئَهُ، وأنَّ ما أخطأهُ لَم يَكُن لِيُصيبَهُ...".
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي