و رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "حُبُّ الرِّئاسَةِ أَصْلُ الْمِحَنِ".
ما اشرأبت الأعناق لشيء كما تشرئب للرئاسة، وما ابتلي الناس بِمِحَنٍ أشَدُّ وأقسى وأصعب وأسوأ مِمّا تسبَّب لهم به حُبِّ الرئاسة، فما سُفِكَت الدماء، وهُتِكَت الحُرُماتُ، وأُذِلَّت الكرامات، واعتُدِيَ على الأعراض، وخُرُبَت الأوطانُ، وظُلِمَ الناسُ، إلا وكان حُبُّ الرئاسة في رأس قائمة الأسباب، وما فَتك بالدين، ومزَّقَ أهله، وأوجد الشقاق بينهم، وحرَّف شريعته، وجعله تبعاً للأهواء والميول الشخصية كما فعل حُبُّ الرئاسة.
حُبُّ الرئاسة كان السبب الأساس للانقلاب الذي حدث بعد رسول الله (ع)، وما جَرَّ ولم يزل يجر على المسلمين من خِلافٍ وفِرقة وتمزُّق ومدارس عقدية وفقهية متناحرة يُكَفِّرُ بعضها بعضاً، ويلعن بعضها بعضاً، ويقتل بعضها بعضاً، وقد استبيحت في ذلك الدماء والأعراض والأموال، لقد تسببَّ الانقضاض على الخلافة ومنعها من أهلها الحقيقيين الذين اختارهم الله تعالى، تسبب بصراعات وحروب لم يزل أُوارُها مُشتعلاً إلى يومنا هذا، وما سُلَّ سيفٌ في الإسلام كما سُلَّ في مسألة الخلافة، من فتنة قتل عثمان بن عفَّان، إلى حروب الجمل وصِفِّينَ والنَّهرَوان، مُرورا باغتيال الإمام أمير المؤمنين عَليّ (ع)، ثم ولده الإمام الحَسَن المُجتبى سِبطِ رسول الله وأحد سَيِّدَي أهل الجَنَّة، ثم الجريمة الكُبرى التي ارتُكِبَت بحق الإمام الحُسَين (ع) وأبنائه وأخوته وصحبه، وسًبي بنات رسول الله (ص).
ثم ما كان من اغتيال الحكومات والسلطات المتعاقبة لأئمة أهل البيت الأطهار، ولكل من عارضها حتى ولو كان متمذهبا بمذهبها الفكري والعقدي والسياسي، وقد كان من معاوية وبني أمية من الفظائع في القتل ما يندى له جبين الإنسانية، كانوا يقتلون معارضيهم على التُّهمة، ويروي أبو الفرج الأصبهاني في كتابه (مقاتل الطالبيين) عن سعيد بن سويد قال: (صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة في الصحن ثم خطبنا فقال: (إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون).
ثم جاء من بعده ولده يزيد الطاغية، فحكم ثلاث سنين ونيِّفٍ فقتل في السنة الأولى الإمام الحسين (ع) وأباح المدينة لجيشه في السنة الثانية فاغتصبوا النساء، وهتكوا الحُرُمات، وقصف في السنة الثالثة الكعبة المُشَرَّفة بالمنجَنيق. وحين قيل له: إنَّ سكان مكة وقسماً من المدينة هم أهلك وأقرباؤك، فأنت أولى بالدفاع عنهم، لا هتك أعراضهم وتدمير بيوتهم، فأجاب: إن المُلك هو الأهم.
وهذا هارون الرشيد يقول: (المُلكُ عقيم)، وهي جملة نجد تمثلاتها حاضرة في كل زمان ومكان، حين يحتدم الصراع بين المتنافسين على كرسي الحكم. وقد قالها هارون حين استقبل في زيارته إلى المدينة الامام موسى الكاظم (ع) وقد رأى ابنه المأمون حفاوة الاستقبال فدار بينه وبين أبيه هارون هذا الحوار:
قال المأمون: يا أمير المؤمنين، مَن هذا الرجل الذي عظّمته وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟!
قال هارون: هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده.
قال المأمون: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟
قال هارون: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام الحق، والله يا بني: إنه لأحق بمقام رسول الله (ص) مني ومن الخلق جميعاً، ووالله لو نازعتني أنت هذا الأمر لأخذت الذي فيه عينيك فإن المُلك عقيم.
ولم يزل هذا النَّهج سارياً إلى يومنا هذا، حيث لا يزال المُعارضون يُقتَلون مادياً أو معنوياً، بل يمكنني الادعاء أن معظم المعارضات في بلدان العالم بأسره تعارض طلباً للرئاسة لا طلباً للإصلاح، بدليل أنها حين تتسلَّم دفة السُّلطة هنا وهناك، تسير بسيرة من عارضته وثارت عليه وأسقطته.
حُبُّ الرئاسة يُعمي القلب، ويقتل العواطف الإنسانية النبيلة، ويُصَيِّرُ الإنسان وحَشاً كاسِراً لديه الاستعداد لارتكاب الفظائع بهدف الوصول إليها أو المحافظة عليها، والذين قُتِلوا جهاراً أو غيلة ماضياً وحاضراً في سبيل ذلك، أكثر من أن يُحصيهم مُحصٍ أو يَعُدُّهم عادٌّ، أو تستوعبهم موسوعات.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: