ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "حِفْظُ التَّجارِبِ رَأْسُ الْعَقْلِ".
وحدهما أبو البشر آدم وزوجَه قد بدءا تجربتهما من الصِّفر، وقد أراد الله لهما تلك التجربة الأولى، والتي خرجا على إثرها من الجنة الأرضية، أما الذين جاؤوا من بعدهما فهم يعتمدون على تجارب من سبقهم، ويزيدون عليها تجارب أخرى، وما زال الإنسان إلى لحظتنا الراهنة ينتقل من تجربة إلى تجربة في مختلف المجالات وعلى كافة الأصعدة، وما من فرد من أفراد البشر إلا وقدَّم تجربة أو تجارب، يبني عليها من يعاصره أو يأتي من بعده، سواء كانت تجارب ناجحة أم تجارب فاشلة. كلاهما يفيد الإنسان، وكلاهما يبني عليها تجاربه الجديدة.
والعاقل هو الذي يحفظ التجارب ويستفيد منها، بخلاف الجاهل الذي يَمُرُّ على التجارب فلا يتعلَّم منها ولا يعتني بها، بل يبدأ من الصِّفر لعدم ثقته بغيره، ولاعتداده برأيه.
ويغفل عن أن الحياة الإنسانية سلسلة متواصلة من التجارب، وعلى كل جيل أن يبني على تجارب من سبقه من الأجيال، وأن يبدأ هو من حيث انتهوا لا من حيث بدأوا، كي لا يكرِّر الإخفاق إن هم أخفقوا، ولا يكرر الجهد فيما بذلوا فيه من جهد، فيضيع عمره وقد كان الأولى به أن يشحنه بالإنجازات، ولو كان كل شخص يكرر ما جرَّبه من سبقه لما تطورت الحياة الإنسانية، ولما كان فرق بين حياة من يعيش في قرننا الحاضر ومن عاش في القرون السالفة، ولبقيَت الحياة الإنسانية على حالها في مختلف الميادين، ولهذا قال الإمام أمير المؤمنين (ع): "لَوْلا التَّجارِبْ عَمِيَتْ المَذاهِبُ، وفي التَّجارِبِ عِلْمٌ مُسْتَاْنَفٌ" أي عِلم جديد يكتسبه الإنسان دون عناء يبذله، ودون وقتٍ يُضَيِّعه، التجربة علم جاهز يُجَنِّب الإنسان تعَبَ البحث، وكلفة التجربة، وهي تطوُّرٌ آخر، وتقدم إلى الأمام.
إن الذي يُمَيَّزُ الإنسان عن سواه من الحيوانات أنه يستفيد من تجارب الآخرين وينطلق منها إلى تجارب جديدة، لذلك نراه قد تقدم عليها جميعاً، أما هي فلم تزل تعيش على منوال واحد مُذْ خلقها الله لم تتطور في شيء، ولم تتقدم خطوة إلى الأمام، بخلاف الإنسان الذي لا تُقاس حياته الحاضرة بحياة أسلافه في العُصور المتقدمة، ولم يكن ذلك إلا نتيجة التجارب التي خاضها على طول حياته، وإمساكه بما فعله غيره، واعتباره به، و "التَّجْرِبَةُ تُثْمِرُ الاعتِبَارَ" كما قال الإمام (ع).
ثم إن التجارب هي السبيل إلى الحكم بصِحَّة أمر أو فساده، ومن اطلع على التجارب المتقدِّمة وحفظها وانطلق منها أَمِنَ من الوقوع في الخطأ، وسَلِمَ مِنَ الزَّلَل، وقد رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "مَنْ أَحْكَمَ التَّجَارِبَ سَلِمَ مِنَ العَواطِبْ، وَمَنْ غَنِيَ عَنْ التَّجارِبِ عَمِيَ عَنْ العَواقِبِ".
إن حفظ التجارب والاهتمام بها والاطلاع عليها ومشاركتها أمر عقلي لا نقاش فيه، وإن الاستفادة من تجارب الآخرين ضرورة لتقدم الحياة الإنسانية، وعلى المَرء العاقل أن يبحث عنها من أي مصدر كانت، سواء اتفق مع صاحبها أم اختلف معه، فالتجربة تبقى مفيدة من أيِّ مصدر جاءت.
ما تقدَّم يلزم منه أن يتواصل الإنسان مع الإنسان، وأن تنفتح شعوب الأرض على بعضها وتوَطِّد علاقاتها وتتبادل التجارب فيما بينها وتستفيد منها، وتُزيل الموانع والحواجز التي تحجزها عن التلاقي فيما بينها، إذ لا يمكن لشعب من الشعوب أن يدعي اكتفاءه الذاتي في كل شيء.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي