ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "جَهْلُ الْمُشيرِ هَلاكُ الْمُسْتَشيرِ".
ولا يُنكِرُ أهمية الاستشارة وضرورتها إلا الأحمق الجاهل، أو المغرور المُعْتَدُّ برأيه، أما العاقل النبيه، فلا يُقدِمُ على أمر إلا بعد أن يستشير ويُجِيلَ الرأي فيه، إذ لا يخيب من يستشير، ومن يشاور الناس يشاركهم في عقولهم، وقَلَّ أن نجد إنساناً عاقلاً لا يشاور ذَوي العقول والاختصاص والخِبرة المتمادية ، فيجمع رأيهم إلى رأيه، وخبرتهم إلى خبرته، ويستبين منهم ما خَفي عنه من وجوه الأمر، فلا نجد حاكماَ أو قائداً أو مُديراً إلا ويعتمد على حَشدٍ من المُستشارين في الاختصاصات التي يحتاج أن يقول رأياً فيها أو يأخذ قراراً بصددها، وفي عالمنا اليوم عشرات الآلاف من المؤسسات الاستشارية في مختلف المجالات.
ولأهمية الاستشارة أمر الله رسوله الأكرم (ص) أن يستشير أصحابه فيما لهم رأي فيه، رغم أنه الرسول المُسَدَّد، والقائد المُؤَيَّد، فقال له: "... وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"﴿159/ آل عمران﴾.
والهدف من هذا أن يبني الرسول الأكرم (ص) شخصية أصحابه والمسلمين من بعدهم، وأن يعرِّفَهم قيمة الاستشارة في حياتهم ومختلف شؤونهم، وأن ينزع من نفوسهم الاستبداد بالرأي، والاعتداد بوجهة النظر الخاصة، والاكتفاء بالتفكير الواحد.
وقد بالغ أئمة الدين والهدى في الحَثَّ على الاستشارة، فقد رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: "لا مُظاهَرَةَ أوثَقُ مِنَ المُشاوَرَةِ" وقال: "ما مِنْ رَجُلٍ يُشاوِرُ أحَداً إلّا هُدِيَ إلَى الرُّشدِ" وقال: "الحَزمُ أن تَستَشِيرَ ذَا الرَّأيِ وتُطِيعَ أمرَهُ" ورُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "مَن شاوَرَ ذَوِي العُقولِ استَضاءَ بأنوارِ العُقولِ" وقال: "الاستِشارةُ عَينُ الهِدايَةِ، وقد خاطَرَ مَنِ استَغنى بِرَأيِهِ" وكشف (ع) عن الحكمة من الاستشارة فقال: "إنّما حُضَّ على المُشاوَرَةِ لأنّ رَأيَ المُشيرِ صِرْفٌ، ورَأيَ المُستَشِيرِ مَشُوبٌ بالهَوى".
ولكن ليس كل شخصٍ يُستشار، بل يجب أن يكون ذا رأيٍ وتجربة واختصاص، وأن يكون شجاعاً كريماً، صادقاً مُخلصاً، وقد أوصى رسول الله (ص) الإمام أمير المؤمنين بوصية مُهِمَّة في هذا الشأن فقال له: "يا عليُّ، لا تُشاوِرْ جَباناً فإنّهُ يُضَيِّقُ علَيكَ المَخرَجَ، ولا تُشاوِرِ البَخيلَ فإنّهُ يَقْصُرُ بكَ عن غايَتِكَ، ولا تُشاوِرْ حَريصاً فإنّهُ يُزَيِّنُ لكَ شَرَهاً".
ورُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه أوصى أحد أصحابه فقال: "لا تُشرِكَنَّ في رَأيِكَ جَباناً، يُضَعِّفْكَ عنِ الأمرِ، ويُعَظِّمْ علَيكَ ما لَيسَ بِعَظيمٍ". وحَذَّرَ (ع) من استشارة الكذَّاب فقال: "لا تَستَشِرِ الكَذّابَ؛ فإنّهُ كالسَّرابِ: يُقَرِّبُ علَيكَ البَعيدَ ويُبَعِّدُ علَيكَ القَريبَ". وحذَّرَ كذلك من استشارة من يشير بأمورٍ مُستَهجَنة تُنكِرها العقول فقال: "لا تُشاوِرْ مَن لا يُصَدِّقُهُ عَقلُكَ، وإن كانَ مَشهوراً بالعَقلِ والوَرَعِ".
وفي جوهرته أعلاه يُحَذِّرُ (ع) من استشارة الجاهل الأحمق، إذ لا رأي له يفيد المستشير، فاستشارته تودي بالمستشير وتُرديه وتجلب إليه الخطأ، وتتسبب له بالهلاك. فعلى العاقل أن يتجنَّب استشارته، والتجربة الإنسانية الطويلة تشهد لذلك، فكم من أشخاص أَوْدَتْ بهم استشارة الحمقى والجَهَلَة، وكم من قرارات اتخذها ملوك ورؤساء وقادة بإشارة من مستشارين أغبياء قادتهم إلى هلاكهم وهلاك من مَعهم وهلاك أوطانهم.
وعلى العاقل أن يشاور ذوي العقول الناصحين الراشدين المُؤْتَمنين، المُجَرِّبين والمُجَرَّبين، الذين يخافون اللهَ ويَخشَونَه، ويقفون عند حلاله وحرامه، ولا يتجاوزون حدوده.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي