ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

مَنْ سَلا عَنِ الدُّنْيا أَتَتهُ راغِمَةٌ

0:55 - July 30, 2025
رمز الخبر: 3501121
بیروت ـ إکنا: حين يُعرض الإنسان عن الدنيا، يحافظ على كرامته وحرِّيته وسيادته على نفسه، في حين أن التعلّق المفرط بالدنيا يُفقده حريته وكرامته، ويجعله عبداً لرغبات لا تنتهي، ومطالب لا تُشبَع.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ سَلا عَنِ الدُّنْيا أَتَتهُ راغِمَةٌ".
 
تنبهنا هذه الجوهرة الكريمة إلى معادلة مهمة ترتبط بعلاقة الإنسان مع الدنيا، في إقباله أو إعراضه عنها، ورغبته أو زُهده فيها، والتعلُّق بها أو الانقطاع منها، واللهث خلفها أو الترفُّع عنها. 
 
إن لطلب الدنيا وجهان قارئي الكريم: 

فتارة نطلب الدنيا للدنيا، نطلب ما فيها من مال، ومتاع، وملذات، وشهوات، وسلطان، وجاه، نطلبه من حِلٍّ أو من حرام، ولا نقتنع باليسير منه، كلما حُزنا منه شيئاً طلبنا المزيد، نقضي أعمارنا لاهثين وراء ذلك، كأننا في سباق محموم، الدنيا تجري ونحن نجري خلفها، فيشغلنا ذلك عن أمور أخرى ضرورية لنا، كالانشغال عن صيانة أنفسنا وتربيتها وتنمية فضائلها، أو الانشغال عن حاجاتنا الروحية والمعنوية، أو الانشغال عن العلاقة بالله وعبادته وذكره، أو الانشغال عن علاقاتنا الزوجية والأُسَرية والعائلية والاجتماعية، وجميع ذلك انشغال عن الآخرة التي إليها معادنا، وفيها حياتنا الحقيقية التي من شأنها الدوام والبقاء والخلود.
 
طلب الدنيا بهذا المعنى له أثران خطيران:

أولهما: الشعور الدائم بالفقر وعدم الغَناء، لأننا كلما حصلنا على شيء لم نقنع به بل نطلب المزيد، فلا نشبع من هذا الجوع، ولا نروى من هذا الظمأ، فستحيل حياتنا كلها إلى جحيم لا يُطاق، وسعير يلتهم ذواتنا، فتكون اليد العليا علينا للدنيا، ونكون نحن عبيداً لها وأسرى في يديها، وغالباً ما يحملنا ذلك على الظلم، والتعدّي، والكذب، وتجاوز القِيَم الإنسانية والأخلاقية.

إقرأ أيضاً:

الثاني: الانشغال بها عَمّا هو ضروري لنا مما سبق وذكرته، والأهم انشغالنا بها عن الله والآخرة، والآخرة هي دار القرار والاستقرار، وهي الحياة التي يجب ألّا يلهينا عن بنائها شيء مهما يكن. 
 
وتارة أخرى نطلب الدنيا كوسيلة للحياة الكريمة، وطريق لبناء الحياة المُثلى في الدنيا وفي الآخرة، نطلبها دون أن ننشغل عن غاياتنا السامية، إن نلنا شيئاً منها حمدنا الله تعالى وقنعنا به، وإن لم ننل ما نريد لم نسخط على الله ولم نتهمه في عدله معنا ولطفه بنا، وهذا واحد من معاني الإعراض عن الدنيا (سَلا عنها) هنا تكون الدنيا هي الطالبة لنا، هي الراغبة بنا، القليل منها كثير من منظورنا، وهو يكفينا.
 
وإلى كلتا الحالتين أشار الإمام أمير المؤمنين (ع) بواحدة من كلماته العميقة الخالدة حيث تحدّث عن نوعين من العلاقة بالدنيا: الانشغال بها عن سواها، أو عن اعتبارها وسيلة لسواها، الأول: يُعمي بصيرة الإنسان، والثاني: يزيده بصيرة ومعرفة، الأول: يجعله عبداً ذليلاً للدنيا، والثاني: يأتيه بالدنيا راغمة ذليلة، قال (ع): "مَنْ أَبْصَرَ بِها بَصَّرَتْه، وَمَنْ أَبْصَرَ إِلَيْها أَعْمَتْه" فمن أبصر بها جعلها وسيلة واستخدمها لتحقيق غاياته السامية، فهي تُبَصّره، تجعله واعياً، ومن أبصر إليها أي تطلَّع إليها لذاتها، وتعلَّق بها، وأعرض عن غاياتها الحقيقية أعمته عن الحق وعَمّا يجب عليه.
 
فالإمام (ع) يميّز بين النظر "بها" والنظر "إليها"، الأولى: تعني اتخاذ الدنيا وسيلة وحسب، والثانية: تعني التعلُّق بها واعتبارها غاية، وبهذا يكشف الإمام (ع) عن المنهج الحق في التعامل مع الدنيا: لا رفضٌ لها بالمطلق، ولا انغماس فيها أعمى، بل نظرة واعية تجعل من الدنيا مزرعة للآخرة.
 
هنا تأتي المعادلة التي بين أيدينا ومفادها: الدنيا تُقبل على من أعرض عنها، وتُعرض عمَّن تعلّق بها، من يُلاحق الدنيا تهرب منه، كلّما اقترب منها ابتعدت عنه، أمّا من يُعرِض عنها، تأتيه هي طائعة، راغبة، إن في هذه المعادلة شيئاً من المفارقة، لكنها مفارقة حقيقية تتجلّى في تجربة العارفين والزاهدين وأصحاب النفوس الحُرَّة، فالدنيا لا تساوي عند العارف الزاهد جَناح بعوضة -إن لم يستثمرها في تزكية نفسه، واعمار ما يجب إعماره-، والجري وراءها يُذلّ الإنسان، ويستهلك عمره فيما لا طائل منه، في حين أن من يتعالى عنها، تأتيه طائعة، كأنها تدرك أن من لا يحتاجها هو الأجدر بها.

حين يُعرض الإنسان عن الدنيا، يحافظ على كرامته وحرِّيته وسيادته على نفسه، في حين أن التعلّق المفرط بالدنيا يُفقده حريته وكرامته، ويجعله عبداً لرغبات لا تنتهي، ومطالب لا تُشبَع. 

بقلم الباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي
captcha