
معادلة تضعنا أمام حقيقة ماثلة للعيان في سلوك الكثير مِنّا، وهي تأثير الإفراط في مخالفة الحق والصواب، والغُلُو في القول والرأي والاعتقاد، وتجاوز الحدود المعقولة في الرغبات والحاجات، تأثير ذلك كله على النفس الإنسانية، والسلوك الإنساني، واستقرار الحياة الإنسانية.
الشَّطط مشتق من الشَّطِّ، و هو البُعد عن الموطن لما في البعد عنه من كراهية النفوس، فاستعير للإفراط في كل شيء مكروه، ومجاوزة الحد، والابتعاد عن الاعتدال، والجَورِ عن القصد، ومنه قوله تعالى عن فِتيَة أهل الكهف: وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَٰهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ﴿الكهف: 14﴾. أي إذا ادعينا وجود إله غير الله تعالى فقد أفرطنا في الباطل، وتجاوزنا الحق، وابتعدنا عن الحقيقة.
إقرأ أيضاً:
وقوله تعالى عن الجِنِّ: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ﴿الجِنّ:4﴾ أي ينسب إلى الله تعالى ما يستحيل أن يتصف به، كأن يقول إن لله شريكاً، أو إن لله بنين وبنات.
وقوله تعالى: خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴿ص:22﴾ أي احكم بيننا بالحق ولا تتجاوزه إلى سواه فتظلم الحق والحقيقة.
فالشَّطط مفهوم يتسع لكل تجاوز وإفراط وغُلُوٍ سواء في القول أو الفعل أو حتى في التصوُّر والحكم والطموح والاندفاع من دون وعي ولا اتزان، إنه انفلات العقال، والسير في طريق يبتعد شيئاً فشيئاً عن الجادة حتى يغدو صاحبه غريباً عن الناس، عنيفاً في الرأي.
في هذه المعادلة يربط الإمام أمير المؤمنين (ع) بين الشَّطَط والسُّخط، فمن كثُر شططه، أي من كثر تجاوزه الحدود المعقولة، وتطرُّفه في المواقف، وغلوُّه في الرغبات والمطالب كثُر سُخطه وضيقه وتبرُّمه، والسبب في هذا يعود إلى أمور نفسية وواقعية:
أولاً: إن طبيعة الشَّطط بالمعنى الذي عرفناه، تدعو الشخص إلى توقعات ورغبات غير واقعية، فمن يُغالي في مطالبه وحاجاته ورغباته، أو حبِّه وكُرهِهِ، ومن يرفع سقف آماله وأمنياته فوق المعتاد والممكن، ثم لا يتحقَّق له ذلك، فمن المؤكَّد أن يقع في دوّامة من السُّخط والتذمُّر والشعور بالمرارة والضيق، يسخط على الناس لأنهم لا يلبّون تطلّعاته المتطرفة، ويسخط على الظروف لأنها لا تستجيب له، ويسخط على الزمن لأنه لا يدور كما يشتهي، ويسخط على الله لأن الله تعالى يمنع عنه ما يريد لعلمه بأن الذي يريده ليس في نفعه ومصلحته.
ثانياً: الشَّطط يجعل صاحبه في صراع دائم مع الآخرين، فالمتطرِّف في مواقفه، والمغالي في آرائه لا بد وأن يصطدم مع الآخرين باستمرار، لأنه لا يرضى بالحلول الوسط، ولا يرى إلا رأيه، فينتج عن ذلك صدامات متواصلة، وخصومات لا تنتهي، فتستعر في نفسه نار السخط حتى تلتهمها.
ثالثاً: إن الحياة الدنيا قائمة على توازن دقيق في تكوينها، وفيما تعطي وتمنع، "لا تَأْتِي فِيْها نِعْمَةٌ إلّا بِفِراقِ أُخْرى" كما يقول الإمام أمير المؤمنين (ع)، فمن يطلب منها فوق ما تعطيه ثم لا تعطيه، فمن المؤكَّد أن يُحبَط، ويسخط، ويغضب، ويشعر بالظلم، فيتملَّكه سُخط دائم يحيل حياته إلى جحيم لا يُطاق.
رابعاً: إن من طبيعة الساخط أَلّا يرضيه شيء، ولا يُشبعه شيء، ولا يٌقنعه شيء، ولا يعرف قيمة لشيء، ولا يشكر شيئاً، ولا يرى جمال شيء، كل شيء يراه قبيحاً ولا يرى جمالاً أبداً.
هكذا يتحوّل من يكثر شططه إلى شخص دائم السخط، يعيش مرارة مؤبَّدة، يلعن الأيام والناس والحياة، ويشعر على الدوام أنه مظلوم مهمّش، لأن ما يطلبه ببساطة فوق المُمكن والمعقول.
نستلهم مِمّا سلف: ضرورة الاعتدال والاتزان فيما نطلب ونرغب ونحب، وضرورة ضبط النفس، ووضع حدود لرغباتها، وتربيتها عل الرضا والشكر، وضرورة معرفة قَدْرِها، وإجلالها، وإكرامها، ففي ذلك كله يكمن الرضا والاطمئنان.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي