
تشير هذه الجوهرة الكريمة إلى واحدة من أهم الحقائق النفسة والإنسانية والاجتماعية، وتقدم لنا معياراً نميز به بين ما يمكن أن نأخذه من الشخص أو الجماعة، وما لا يمكن أن نأخذه منهما.
حين يكثر الباطل، لا يعود للحق صوتٌ مسموع، والباطل ضد الحق، وإذا كان الحق هو ما يجب أن يكون فالباطل هو ما لا يجوز أن يكون، وهو بهذا المعنى لا يقتصر على الكذب، والافتراء، والبُهتان، والنميمة، والغيبة، والظلم، والعدوان، بل يعم كل انحراف عن جادة الصدق والاستقامة والعقل، فيكون الغلو منه، كما يكون التناقض والفجور، وكل ما يكون منشؤه الهوى منه، اعتقاداً كان أم قولاً كان أم عملاً.
فإذا كان المرء مُكثراً من الباطل، في اعتقاده، أو أفكاره، أو في أقواله كما لو كان يكثر الكذب، أو في أفعاله كما لو كانت قائمة على الاحتيال والغِش والظلم، إن هذا الشخص لا يمكن أن يُصدَّق إذا قال، ولا يُصدَّق إذا فعل، حتى ولو كان ناطقاً بالحق، لانعدام الثقة به، الأمر يشبه دلواً صغيراً فيه ماء نجس فلا يطهر إذا أضفنا إليه كوباً أو كوبين من ماء طاهر، ولهذا أوجب العقل عصمة المعصومين عن الصغير والكبير من الذنوب، وفي جميع أحوالهم، لأنه إن صدر منهم قبيح، أو ذنب، أو نسيان ولو في جزئية صغيرة فإن ذلك يؤدي إلى انعدام الثقة بهم، إذ لا يمكن التمييز بين الصحيح والصواب، وبين الحلال والحرام، وبين الذنب والطاعة من أفعالهم، فكيف إذا كان الباطل منهم كثيراً والعياذ بالله، هنا لا يمكن تصديقهم البتّة حتى ولو كان الذي يقولونه أو يفعلونه حقاً.
فالإكثار من الباطل يُفقِد الإنسان مصداقيته ولو قال ما هو حق، بل يُواجَه بالشكّ، ويُتهم بالتلاعب والتحايل، لأنّ الناس لا تفصل بين القول وقائله، ولا بين الفعل وفاعله، فالصدق ليس حالةً عارضة طارئة، تعرض على الإنسان تارة وتنفك عنه تارة أخرى، بل هو مَلَكَة أخلاقية تلازمه مدى عمره، وسلوك متراكم يُكتَسَبُ من الثبات عليه.
ما ينطبق على الفرد، ينطبق على الجماعات والأحزاب، والتيارات، والدول، فإن كثر باطل جماعة، أو حزب، أو دولة -وما أكثر ذلك- فحتى لو طرحت يوماً موقفاً حقاً أو دعوة صادقة، فلن تجد آذانًا صاغية، لأن الثقة بها قد تهشَّمت وتآكلت، واستعادة الثقة أمر عسير.
والقارئ الكريم يشهد أن دولاً عُظمى اليوم لم تعد قوتها تعتمد على القوة العسكرية والاقتصادية، بل باتت تعتمد على الكذب والنفاق، والمكر، والخداع، والمراوغة، وهذا هو النموذج الذي تقدمه الدول الغربية بشكل عام، والشيطان الأكبر بوجه خاص، هذه الدولة التي تمدَّ يدها للتفاوض، ليتبين أن التفاوض نفسه خديعة، وأنها أثناء التفاوض لا تضغط لتكسب مزيداً من التنازلات من الطرف الخصم، بل تعدُّ لحرب ظالمة قاصمة له، فكيف والحال هذه لأي كان من الدول أن تثق بها، حتى ولو فرضنا يوماً ما أنها تدعو إلى أمر مُحِقٍّ، لذلك يجب على العاقل أن يتعامل معها من موقع الشك، وسوء الظن، حتى يثبت العكس، وأن يظلَّ على حذرٍ منها، لأن من وما طبعه الشَّرُّ لا يمكن أن يؤمَنَ جانبه، أو يُصدَّق في قوله، فإن "مَنْ كَثُرَ بَاطِلُهُ لَمْ يُتَّبَعْ حَقُّهُ".
بل يمكن الذهاب أبعد في القول قارئي الكريم: أننا هنا نواجه معضلة أخرى، فإذا كان الذي يكثر باطله لا يمكن أن يُصدَّقَ أو يُتَّبَعَ حقُّه، لانعدام الثقة به، فإن الشخص ذاته الذي يكثر باطله إن قال حقاً فقد لا يكون مؤمناً به إيماناً فعلياً، وإنما يجعل ذلك واحدة من أدواته لنشر باطله، وهذا معنى لبس الحق بالباطل الذي أشار إليه الله تعالى في كتبه الكريم بقوله: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿البقرة: 42﴾ وحين تُستخدم المبادئ العظيمة -كما تفعل إمبراطورية الشيطان الأكبر- كأدوات لخدمة المصالح، فإنها تفقد قيمتها وصدقها، ويتحول الحق (الظاهري) إلى سلاح في يد الباطل وأهله.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي