
إن اختيار مصطلح التصارم لم يأتِ من فراغ، وإنما لما يعنيه من تقطيع وهجر، إذ إن طبيعة المبحث تستدعي منا التأسيس لمبدأ يدور حوله اللبنانيون دون أن يتمكنوا من البناء عليه، وهذا المبدأ هو
الوحدة بين اللبنانيين، فهم منذ عقود من الزمن يبحثون عن وحدتهم، ليكونوا شعباً أو أمةً! ولكنّهم عجزوا عن إحياء هذا المبدأ، وراموا أن تكون الطوائف والأحزاب بديلًا عنه!
فإذا كانت الطوائف غير محبّذة في الدين، وغير محمودة في أنظمة الحكم الحديثة، فذلك إنما يعود إلى المنازع السلبية التي يعتمدها البعض لتسويغ ذاته، سواء في الوجود، أو في الاجتماع والسياسة! فكانت الطائفية اللبنانية دائماً تأتي في سياقها السلبي، لكونها مرادة، لا للبناء والتطلع نحو الوحدة، بل بهدف إيجاد قاعدة صراعية للتسويغ وحماية المصالح الفئوية!
إقرأ أيضاً:
لقد هالنا فعلًا ما سمعناه للتو، أن الثنائي الوطني، يقول: "اعطونا الوحدة بين اللبنانيين، وخذوا منا الهزيمة المحتّمة
للعدو الصهيوني، فهو في هذه المطالبة يعود بنا إلى الماضي البعيد، يوم كان
الإمام موسى الصدر في ستينات القرن الماضي يطالب اللبنانيين بأن لا يكونوا مجرد أناس، أو كمية مهملة من البشر! داعياً إياهم إلى الوحدة على أساس أنهم شعب وأمة، لقناعة الإمام الصدر العلمية والسياسية، أن الشعب يعني وجود وحدة، ووجود فكر ورسالة تقوم على عاتق اللبنانيين جميعاً، بحيث تُصهر المختلفات في بوتقة واحدة، تكوّن الشعب والأمة، ولهذا يسأل الإمام الصدر، ماذا تصنع إسرائيل والاستعمار مع أمة؟
فهذا السؤال أثاره الإمام منذ ستين سنة، ولم تتحقق الوحدة بين اللبنانيين رغم كل المآسي والبلاءات التي لحقت بهم! والأغرب من هذا نجد مَن يُفاخر بالتنوع الطائفي، ويسهى عن حقيقة ما يعنيه التنوع في فلسفة الخلق والوجود، إذ لا شيء في هذا الوجود إلا وهو محكوم للتنوع، وقائم به، وهذا ما نراه في عالم التكوين، وقد جاء عالم التشريع على مثاله، وذلك لاستحالة تحقق الكمال الوجودي، أو البشري دون هذا التنوع، فإذا كان الله تعالى قد ضبط عالم التكوين وفق قوانين خلقه وتدبيره، فهو لم يترك عالم التشريع لمن يعبث به، بدليل أن الله تعالى جعل الخليفة، وأوكل إليه مهام عالم التشريع، ليكون التنوع مضبوطاً وفق قواعد وقوانين تنظم حركة هذا العالم وتحولاته باتجاه تكامله.
وهنا السؤال، هل اللبنانيون يعقلون معنى التنوع وغناه في بلادهم؟ أم أنهم اختاروا التصارم في وجودهم وسياساتهم؟ ولماذا لا يقوم الأحبار والعلماء بمهمة الخلافة إن كانوا يزعمون لأنفسهم شيئًا منها؟ فالتنوع يفترض التفاعل الإيجابي بين مكونات المجتمع اللبناني، وذلك انسجامًا مع الانتظام الكوني، لأن الإنسان ينتمي إلى هذا العالم، ولا بد أن تكون له تحولاته الإيجابية في سياق عمل السنن والنواميس الإلهية! ولهذا، فإن عجبنا لا يكاد ينتهي من مزاعم بعض الناس في إرادة الوحدة، وهم منذ تكوين هذا الوطن، وظهوره إلى حيز الوجود لم يعملوا للانصهار في بوتقة الوحدة لبناء المجتمع المتفاعل إيجابيًا، يقول الإمام الصدر:"لا تقوم حياة المجتمع إلا بالتفاعل...فالخطر ليس في تعدد الطوائف، ولكن إذا ما تحوّل التعدد إلى سلبية، فهذه كارثة الوطن".
لقد حصل في المجتمع اللبناني ما توقعه الإمام الصدر، فاستمر اللبنانيون مجرد مجموعة أفراد، فلم تنتظمهم عوالم التكوين والتشريع، فأصبحوا رهائن لأيادي الفوضى والعبثية! ولو أنهم استطاعوا نقل هذه العدوى إلى عالم التكوين لفعلوا! فالدعوة إلى الوحدة، والقيام بها، هو ضمانة لا الانتصار وحسب، وإنما لبقاء الوجود، ومن أين تكون هذه الوحدة، طالما أن هناك من يتصارم في وجوده، ويتعامل مع عدوه، أو يحول دون أن تكون له عوامل قوة تحمي من العدوان!
فالوحدة لا تعني التناقض في الأهداف، ولا الصراع مع من يفترض التعاون معهم لحماية الوطن! لذا، فإن الوحدة بين اللبنانيين تتطلب مزيدًا من الوعي في تعقّل سنن الوجود، قبل التشدّق بالعمل السياسي، واختيار التحالفات، وكيف لا يكون الأمر كذلك، وكلنا يدرك حقيقة ما تتقوّم به سنن الوجود، لجهة ما تدعو إليه من تعارف وتواصل في ظل تنوع المواقف والأراء، وكم كان الأمر مختلفًا لو أن الهيئات الروحية اختارت ما اختاره الله لها من وظيفة التفاعل، ومد جسور التواصل!
فهم أدرى الناس بحقائق الخلق والتكوين،فإذا كانت السياسة تمنعهم من ذلك، فقد سبق إلى علمهم ما أداه الأنبياء والأولياء في هذا السبيل، فلماذا يدّمر التنوع اللبناني على مسمع ومرأى منهم؟! وهل من وظيفتهم الصمت حيال ما تؤديه السياسة من تصارم في الوجود المعنوي والمادي للناس؟ نعم، يفترض بالعلماء أن يكونوا حراساً، ودعاة إلى الوحدة على النحو الذي يؤدي باللبنانيين إلى أن يكون على تواصل وتكامل في الرؤية والهدف، فالعدو الأول للمجتمعات البشرية، هو التنازع، وعدم التفاعل الإيجابي، وضوابط هذا التفاعل ليست مجهولةً لأحد من اللبنانيين، ولكن ماذا نفعل إن كانت خطوات الشياطين، هي الغالبة، سواء في مساعي الدين، أو في مساعي السياسة؟
لا شك في أنه ليس من فعل إزاء ذلك كله، إلا أن يتصدى أهل الفكر والوعي لمهمات الوحدة، لأنهم أدرى الناس بما يعنيه التنوع في إطار الوحدة، فالله لم يخلق الخلق ليتصارعوا، وإنما ليتنافسوا في الخير، ويتسابقوا في حماية التنوع كسبيل وحيد إلى التكامل.
لقد قالها الإمام الصدر منذ ستين سنة:"إن العلاج يكمن في السمو في التفكير، والتوسع في المسؤولية".وطالما أن الوطن اللبناني محكومٌ لمن يعبث بالدين والسياسة، فلن تكون ثمة قيامة للوطن، وسيبقى العدو طامعاً في الأرض، وقائماً بالعدوان على نحو ما يجري اليوم من اعتداءات مموهة دائمًا بالتناقض اللبناني في الطوائف والمذاهب والأحزاب، وهذا ما كان دائمًا مصب اهتمام الأعداء لتدمير النموذج اللبناني في ظل كل ما يتوفر له من عوامل الوحدة والانصهار! والسلام.
بقلم أ. د فرح موسى؛ رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان