
عبر الأحياء، والمدن، والقرى النائية، وحتى في الصحراء، يجمع المشهد نفسه آلاف الأطفال كل صباح: حفظ
القرآن الكريم. وسط هدير الأصوات، وحك الأقلام على الألواح الخشبية، وحماس المعلمين، يتم الحفاظ على تراث حتى يبقى حياً. أكثر من مجرد تقليد، أصبح حفظ القرآن الكريم روح شعب، ورابطاً يوحّد المغاربة في إيمانهم وتاريخهم ومستقبلهم، والدليل على ذلك أن أكثر من 1.6 مليون مغربي يحفظون القرآن الكريم عن ظهر قلب. رحلة في قلب هذا التقليد العريق.
مع خيوط الفجر، عندما يؤذن المؤذن، يتكرر مشهد لا يتغير في جميع أنحاء المغرب. في القرى النائية كما في المدن الكبرى، يتوجه الأطفال والمراهقون إلى المساجد، والمدارس القرآنية، أو المدارس العتيقة. فكرة واحدة في أذهانهم:
حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب.
يجلسون أمام ألواحهم الخشبية، يتلون بصوت منخفض أو بصوت واحد الآيات التي تعلموها في اليوم السابق أو التي سيتلونها بإخلاص خلال اليوم، تحت أنظار المعلم. هذا الطقس، المتوارث جيلاً بعد جيل، يشكل هوية يمتزج فيها المقدس بالحياة اليومية.
في كل عام، يشغل مئات الآلاف منهم هذه المقاعد الفريدة، شاهدين على جهد جماعي للحفاظ على
الثقافة القرآنية والدين الإسلامي ونقلهما. من شمال المملكة إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، مروراً بفاس، وصفرو، والعيون، وطنجة، وتارودانت، وكرسيف، ذهبنا لمقابلتهم. ما اكتشفناه كان خلايا حقيقية يدرس فيها كتاب الإسلام المقدس بصرامة وانضباط، ولكن أيضا بحب وشغف.
وتحمل نسائم الصباح هذا معه تقليداً عمره ألف عام لا يزال يغذي روح البلاد. اليوم، يحفظ أكثر من 1.6 مليون مغربي القرآن الكريم عن ظهر قلب، مما يضع المملكة في المرتبة الأولى عالميا وفقاً لليونسكو. "يشتهر المغرب بكونه من بين الدول التي تضم أكبر عدد من حافظي القرآن الكريم، وذلك بفضل منهجه التقليدي والفصيح، الذي يعتمد على استخدام الألواح وأدوات الكتابة الخاصة. فعلى عكس الدول الأخرى التي يحفظ فيها القرآن مباشرة من المصحف، يحفظ الطالب هنا بالكتابة والتلاوة. هذه الطريقة، التي ورثها أجدادنا وتوارثوها، لا تزال تعطي نتائج ممتازة. إنه إرث ثمين، يحميه ويشجعه العاهل المغربي كما يلخص يوسف العيساوي، أستاذ القرآن الكريم في صفرو".
النص، الروح، والقيم
هذا الرقم ليس مجرد إحصائيات رقمية، بل فخر وطني، وتعلق عميق بالقرآن الكريم. يقام سباق حقيقي للاحتفاء بالإتقان والحماس في ربوع المغرب. هناك أكثر من 2200 مركز تحتضن 114 ألف طالب، ونحو 11500 كتاب لأكثر من 320 ألف طالب، و290 مدرسة للتعليم العتيق تستقبل 36500 طالب. قاسمها المشترك: تكوين الحراس الجدد للقرآن.
هنا، لا يدرس القرآن الكريم فحسب، بل يعاش. يصبح رابطاً روحياً وثقافياً، يوحد المغاربة في تنوعهم. يقول معلمو القرآن الكريم إن هذا التعلم اليومي ينقل، قبل كل شيء، قيم الصدق، والوفاء، والاحترام، وحسن الخلق. المدارس القرآنية والعتيقة، كالمساجد، تصبح أماكن للوحدة، بعيدة عن أي انقسام أو تطرف. كل ذلك تحت راية واحدة: إسلام الوسطية والتسامح واحترام الآخر. يشرح محمد يحضيه سيباوي، الباحث في التاريخ من العيون وعالم مسلم، فلسفة هذه المقاربة قائلاً: "تربي المدارس القرآنية العتيقة أجيالاً في إطار التصوف السني المالكي، القائم على المذهب الأشعري. هذا التكوين حصن منيع ضد الإرهاب والتطرف وجميع أشكال الانحراف الديني. لذلك، من الضروري أن تواصل هذه المدارس نقل هذه الرسالة للأجيال الحالية والمستقبلية".
على المستوى الفردي، تجلب قراءة القرآن الكريم السلام الداخلي وصفاء الذهن. ويلاحظ المعلمون تحسنا في القدرات الذهنية: الذاكرة والتركيز والانضباط. بالنسبة للشباب، تصبح هذه الصرامة عاملاً مهماً. وعلى المستوى الروحي، تشكل كل آية بوصلة داخلية، توجه الصلاة وتضفي معنى على الحياة. حفظ القرآن الكريم في المغرب ليس مجرد تمرين ديني، بل هو مدرسة للروح والنفس. "مدرسةٌ تمتد من شمال البلاد إلى جنوبها لتكوين شبابٍ متدين، واعيٍ بحاضره، مستشرف لمستقبله. أسلافنا الأتقياء، الغيورون على دينهم، أنشأوا ومولوا هذه المدارس القرآنية. واليوم، نجني ثمار جهودهم: آلاف الطلاب يتعلمون القرآن فيها، ثم يواصلون تكوينهم في العلوم الدينية، قبل أن يصبحوا مواطنين نافعين، مساهمين في تنمية البلاد وإشعاعها" يضيف عبد الحميد أمجاط، أستاذ الدراسات الإسلامية في تارودانت.
تعلق فطري
يؤكد لنا وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي، أحمد التوفيق، أن تعلق المغاربة بالقرآن الكريم فطري. فمنذ الصغر، يرسلون أبناءهم إلى الكتّاب لحفظ القرآن الكريم، دون أن يتعارض ذلك مع تعليمهم الحديث، حيث يتعلمون أيضا آيات من القرآن الكريم. "حتى من لم لا يتكلم العربية، كمواطنينا الأمازيغ، تعلموه وحفظوه كاملاً. وحتى اليوم، يرتاد ما يقرب من نصف مليون طفل المدارس القرآنية، معظمها ملحق بالمساجد. ونتلقى سنوياً طلبات لفتح مدارس مستقلة جديدة، ونرخص لها عند استيفائها للشروط. إضافةً إلى ذلك، يستفيد من البرنامج الوطني لمحو الأمية، الذي أطلقه العاهل المغربي أكثر من 350 ألف شخص سنوياً، غالبيتهم من النساء. إن الكثير منهن، رغم أنهن أميات، استطعن حفظ القرآن الكريم كاملاً"، يضيف الوزير، الذي تشرف وزارته على جميع الكتاتيب والمساجد والمدارس التي تدرس القرآن الكريم في المغرب.
والنتيجة مذهلة. في ضوء خافت لغرفة متواضعة في أغلب الأحيان، في قلب القرى والمدن والأحياء الجديدة، يصطف الأطفال أمام فقهائهم. يحملون ألواحاً خشبيةً مطلية بالطين وقلما من القصب مغموسا في حبر أسود، يكتبون ويرتلون الآيات، ويمحونها ويبدأون من جديد حتى تنقش كل كلمة في عقولهم وقلوبهم. توضح إيمان يحيى، معلمة قرآن في طنجة: " إنها طريقة تدريس تسهل على الطلاب حفظ القرآن، لأنها تحفر كلمات القرآن بعمق في ذاكرتهم ".
سلسلة متصلة
تعزز هذه الطقوس إتقان العربية، وتحسن كتابة القرآن الكريم، وتغرس انضباطاً نادراً. إنه ليس مجرد نص مقدس يتم تناقله، بل هوية حية، متجذرة في التاريخ المغربي. عبد الله الغزيوي، مشرف مدرسة القرآن الكريم بمسجد حفصة بفاس، يشدد على الخصوصية المغربية. لهذه المقاربة مزايا عديدة: يتلقى التلميذ القرآن الكريم مباشرةً من فم المعلم. يؤكد الغزيوي: "النقل شفهي ومباشر، من الملاك جبريل الذي أنزله على النبي(ص)، ثم إلى الصحابة، ثم إلى الأجيال اللاحقة. إنه سلسلة متصلة، إرث مقدس لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا". الوتيرة صارمة إلى حد ما. عبد الحميد أمجاط، أستاذ الدراسات الإسلامية في تارودانت، يفسر الأمر قائلاً: "يستيقظ الطالب قبل الفجر، وغالبًا ما يوقظه معلمه، ويستأنف دراسته. ثم يسلم لوحته المكتوبة إلى المعلم، الذي يصححها، ثم يغسلها الطالب، ويعيد الكتابة فيها مرة أخرى، ويقرأه ما كتبه على المعلم. يكرر هذه العملية لترسيخ الآيات في ذاكرته. لكن الحفظ وحده لا يكفي، بل يلزم ترسيخ الآيات وتلاوتها بانتظام".
لذا، يعد الاستيقاظ باكراً ضرورياً لتجديد طاقة الطالب وعزيمته. يواصل هذه الدورة طوال اليوم: يكتب، ويصحح، ويتلو، ويقارن مع زملائه لتجنب الأخطاء. لا تهدف الكتابة على اللوح إلى الحفظ فحسب، بل تشمل أيضا التعرف على دقائق النص القرآني: الكلمات المتشابهة، والاختلافات الإملائية، أو حتى بعض خصائص الكلمات. تعرف هذه الطريقة بالأمازيغية باسم "أنساس" أو "تيتمتين". "بفضل هذه الدقة، يصبح القرآن جزءا لا يتجزأ من كيان الطالب، وذاكرته، وجسده. هذا ما أكسب المغرب سمعته ونجاحه في مسابقات الحفظ الوطنية والدولية"، كما يشير عبد الحميد أمجاط.
في مدرسته، يعكف ثلث الطلاب على الدراسات الدينية فقط، بينما يجمع الآخرون بين حفظ القرآن والدراسات العامة. على الرغم من الصرامة المتبعة في تعلم القرآن، إلا أن المنهج والجو العام لا يخلو من الغرابة. هناك ضجة كبيرة ظاهرة، كما أن هناك بعض المبادرات والأساليب التي تثير التساؤلات. لكن لكل شيء معنى. خلال كل إتقان وفي نهايته، يتجلى تعبير واحد على الوجوه: الفخر بإكمال التعلم والرغبة في المضي قدما. من شمال المغرب إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، يعد تعلم القرآن أيضا دعامة الأمة.
المرأة أولاً
كما ترون، على أرض الواقع، يتوزع التعلم بين المدارس القرآنية والمساجد ومدارس التعليم العتيق. لكن هذا ليس كل شيء. تنظّم أيضاً مراكز تعليمية موسمية خلال كل فترة صيفية. كما يتم تنظيم مدارس متنقلة، لا سيما في مناطق مثل الصحراء المغربية. ولكن يبقى الأساس هو المدارس القرآنية، أو ما يعرف بالكتاتيب.
يشير أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، في هذا الصدد إلى تنامي الرغبة في ولوج المدارس القرآنية، إذ يلتحق بها ما يقرب من نصف مليون طفل، معظمهم في المساجد. ويتقاضى الإمام، الذي يشرف على عملية التحفيظ، راتباً زهيداً، لكنها مهمةٌ جليلة. تقدم كل عام طلبات لفتح مدارس جديدة، وعندما تلبي الشروط، نرخِص لها.
ويضيف: "وفضلاً عن ذلك، يستفيد من البرنامج الوطني لمحو الأمية، الذي أطلقه العاهل المغربي، أكثر من 350 ألف شخص سنوياً. وقد لاحظنا أن النساء يمثِلن نسبةً كبيرةً من المستفيدين: فكثيرات منهنَ يأتينَ لتعلم القراءة والكتابة ليتمكنَ من قراءة القرآن الكريم. ويؤكد الوزير أن بعضهنَ، رغم كونهنَ أميات، نجحنَ في حفظ القرآن الكريم كاملًا.
تتكيَف المدارس القرآنية. ففي كرسيف، شرق المغرب، على سبيل المثال، تزدهر المدارس والمراكز الموسمية. يشرح معزوز بولويحة، عضو المجلس العلمي المحلي، هذه المقاربة، التي تعزى جزئيا إلى عودة العائلات المغربية من الشرق المقيمة في الخارج لقضاء عطلتها. ويقول: "بالإضافة إلى المراكز الدائمة، ننشئ هذه المدارس الصيفية لتحفيظ القرآن الكريم. الهدف هو تمكين الأطفال من تعزيز إتقانهم للقرآن الكريم حتى خلال فترة العطلة. وهذه العملية تلاقي نجاحا، لدرجة أن عدد هذه المرافق في ازدياد مستمر".
جهد جماعي
في الصحراء، تتواجد المدارس المتنقلة. "في مناطق الصحراء المغربية، تتميز المدارس القرآنية العتيقة بخصوصية، وهي أنها غالبا ما تكون متنقلة، نظراً لنمط حياة السكان المحليين، حيث يمارس الكثير منهم تربية الماشية ويتنقلون بشكل دائم. لكن هذا التنقل لم يحل دون تطورها أبداً".
على العكس من ذلك، تكيفت هذه المدارس، وظلت رسالتها هي نفسها: تعليم القرآن الكريم وتناقله، وهو ما يظل جوهر نشاطها، يؤكد الباحث في التاريخ محمد يحضيه سيباوي من العيون.
وإذا كان التكيف هو الكلمة المفتاح، فإن التضامن الوطني عنصر أساسي أيضاً. تتضافر جهود العائلات والقبائل والقرى والأحياء، تحت رعاية وزارة مبادرة ومجالس علمية فاعلة، في هذا الجهد الضخم. تطلق وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية برامج تربوية، وتزيد من عدد مراكز حفظ القرآن الكريم، وتنظم مسابقات كبرى. تقدم الجمعيات والمؤسسات الخيرية والمحسنين دعما قيما. كما تساهم العائلات، كل حسب إمكانياتها. الأئمة والفقهاء متفانون في عملهم. يوسع العلماء هذا العمل من خلال المؤتمرات والخطب وحملات التوعية. في العصر الرقمي، تمنح وسائل التواصل الاجتماعي هذا التراث صدى عالمياً، حيث تبث التلاوات والدروس والمسابقات مباشرة.
عندما اعترفت اليونسكو بالمغرب كدولة رائدة من حيث عدد حفظة القرآن الكريم، لم يكن الأمر مجرد شرف، بل كان اعترافاً بتراث حي، وشغف عميق بالقرآن، يتردد صداه في كل مدرسة، وكل بيت، وكل قرية. وراء هذا النجاح عائلات وهيئات وجمعيات تتوراث هذا الحب والذاكرة والقيم والفخر. هذا الزخم، عوض أن يتلاشى ويتراجع، يتعزز ويتطور. بفضل هذه الجهود المتواصلة، أصبح المغرب نموذجا يحتذى به في العالم الإسلامي، مثبتاً أنه من الممكن الحفاظ على التراث الروحي في إدراجه في زخم المستقبل المشترك.
المصدر: ar.le360.ma