
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ حارَبَ أَهْلَ وَلايَتِه ذَلَّتْ دَوْلَتُهُ".
تكشف هذه الجوهرة الكريمة عن سُنَة من سُنَن الله الاجتماعية، على الحاكم أي حاكم ألا تغيب عن باله أبداً لأن مصيره ومصير حكمه مرتبط بها ارتباطاً وثيقاً، فكلما كان الحاكم عادلاً في رعيته، مهتماً بشؤونها، مسالماً لها، مدافعاً عنها، تعمَّقت العلاقة بينه وبينها، وازداد الولاء بينهما رسوخاً وثباتاً، مِمّا يحافظ على سلطته ويقوِّي دولته، ويجعلها عزيزة منيعة، أما إذا حاربها، وعاداها، وأهمل شؤونها، ولم يقم على تدبير أمورها كما يجب، أو تواطأ عليها مع أعدائها، ذهب سلطانه، وهان على شعبه، وذلَّت دولته، حتى تصير نُهبة لكل طامع.
إن العلاقة بين الحاكم والمحكومين تقوم على الولاء المتبادل، الولاء من الحاكم لشعبه بحسن التدبير، والعناية والرعاية والاهتمام والمودة، والولاء من الشعب لحاكمه بالطاعة والثقة والنصرة.
كلما كان الحاكم عادلاً في رعيته، مقيماً للحق بينهم، بعيداً عن الظلم والمحسوبية، محباً لهم، حريصاً على مصالحهم، مدافعاً عن حقوقهم وسيادتهم وحريتهم وكرامتهم، ذائداً العدوان عنهم بكل ما يملك، مهتماً بحوائجهم، قريباً منهم، يشاركهم همومهم، ويداوي جراحهم، ويجهد في حل أزماتهم، ويواسيهم في نكباتهم، فمن الطبيعي أن يحترمه شعبه، ويقابلوه بالمودة والطاعة والنُّصرة والولاء، حين يجدون فيه الحصن والملاذ، والقائد الذي يقودهم نحو مجدهم وعزتهم، الأمر الذي يقوِّي الدولة، ويجعلها عزيزة منيعة، لا ينال منها عدو مهما ملك من قوة وقدرات.
يوصي الإمام أمير المؤمنين (ع) مالكَ بن الأشتر النَّخْعي في عهده إليه لَمَّا ولّاه مصر فيقول: "وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْـمَحَبَّةَ لَـهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْـخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَـهُمُ الْعِلَلُ، وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي العَمْدِ وَالْـخَطَأ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ، وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلاَكَ بِهِمْ".
وما من شَكٍّ أنه إذا انقلبت الصورة، فصار الحاكم عدواً لشعبه، ظالماً له، مقصراً في خدمته ورعايته وتدبير شؤونه، متنازلاً عن حقوقه وسيادته، لا يجْبَه عنه المخاطر والعدوان، ولا يتقدمه في الذَّود عن حياضه، أو متواطئاً مع عدوه عليه، فهذا إعلان حرب منه على الشعب، والشعب مصدر شرعيته ومصدر قوته، ففي هه الحالة يفتقد الشرعية، ويفتقد القوة، فيَذِل ويهين على الشعب، ويذل ويهين على أعداء الشعب، فتنهار سلطته، وتذهب دولته، ويصبح خبراً من الأخبار، والتجربة الإنسانية شاهد صادق على ذلك، والتاريخ حافل بالأمثلة، من دول وحضارات سادت وازهرت وتطوَّرت، لأنها ارتبطت بشعوبها برابطة الولاء والثقة، وأخرى ذلَّت وهانت وزالت، حين انعدمت رابطة الولاء بين الحاكم والمحكومين، وتحوَّل الحاكم من ولي لشعبه إلى عدو له، ومن سلم له إلى حرب عليه.
فالشعب وحده مصدر السلطات، والشعب وحده مصدر الشرعية، والقوى الخارجية لا تمنح الشرعية، ولا القوة، وإذا منحتها لشخص وكان الشعب غير راضٍ عنه يصبح في نظر شعبه أداة لتلك القوى، فيعاملوه كما يعاملوها، ويحاربوه كما يحاربوها.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي