ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

مَنْ كَثُرَ هَزْلُهُ بَطَلَ جِدُّهُ

22:14 - October 12, 2025
رمز الخبر: 3501988
المِزاح بالحق والدُّعابة الصادقة الذين يبهجان القلب، ويصاحبهما الوقار والاتزان مرغوبين للإنسان، القليل منهما جيِّد بلا شك، لكن الجِدَّ والرصانة هما الأصل، فمن جمع بينهما أدخل السرور على القلوب ورَوَّح عنها الكّدَر والتوتر

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ كَثُرَ هَزْلُهُ بَطَلَ جِدُّهُ".
 
في هذه الجوهرة الكريمة يحذِّرنا الإمام أمير المؤمنين (ع) من الاعتياد على الهَزل الذي يقابل الجِدَّ والرَّصانة، وأصل الهَزل من الخِفَّة والضَّعف، وهو مذموم، لأنه لا يكون غالباً إلا في السُّخفِ والباطل، ويُشعِر بالاستخفاف والميوعة، ويجُرُّ إلى السُخرية والاستهزاء، ويُذهِبُ الوَقارَ والهَيبة، ويُضعِفُ العزيمة.

وهو غير المِزاح الذي يكون في الحق، وهو من زاحَ الشيءَ أي نَحَّاه بلُطفٍ، فهو ملاطفة بالكلام لإدخال السُّرور على قلب الآخر، ولا يستلزم الذمّ إذا كان بقَدْرٍ وصدق.

ولقد كان رسول الله (ص) يمازح أصحابه أحياناً ترويحاً عن أنفسهم، وإدخالاً للسرور على قلوبهم، ومعلوم أن إدخال السرور على قلب المؤمن من الأمور المستحبَّة، ولكنه (ص) كان لا يقول في مزاحه إلا حقاً، وهو القائل: "إنِّي لَأَمْزَحُ وَلا أَقُولُ إِلّا حَقّاً"
 
وقد رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "أَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) امْرَأَةً عَجُوزاً دَرْدَاءَ (أي سقطت أسنانها)، فَقَالَ (ص): "أَمَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ دَرْدَاءُ". فَبَكَتْ المرأة العجوز فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكِ؟" فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي دَرْدَاءُ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) وقال: "لَا تَدْخُلِينَ عَلَى حَالِكَ هَذِهِ".

وعن زيد بن أَسلَم، قالَ: أَنَّ رَسولَ الله (ص) قَالَ لِامْرَأَةٍ وَذَكَرَتْ زَوْجَهَا: "أَهَذَا الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ"؟ !فَقَالَتْ: لَا مَا بِعَيْنَيْهِ بَيَاضٌ !وَحَكَتْ لِزَوْجِهَا، فَقَالَ: أَمَا تَرَيْنَ بَيَاضَ عَيْنِي أَكْثَرَ مِنْ سَوَادِهَا؟!.
 
المِزاح بالحق والدُّعابة الصادقة الذين يبهجان القلب، ويصاحبهما الوقار والاتزان مرغوبين للإنسان، القليل منهما جيِّد بلا شك، لكن الجِدَّ والرصانة هما الأصل، فمن جمع بينهما أدخل السرور على القلوب ورَوَّح عنها الكّدَر والتوتر، وهذا ما عَلَّمَناه رسول الله (ص) أن نصحب المِزاح بالوَقار، وأن نجعل من جدّنا عماداً تبنى به الدنيا والآخرة.
 
فالإنسان قارئي الكريم يحتاج إلى فسحة من الترويح والابتسامة، كما يحتاج إلى الجدية والصرامة في مسؤولياته، فالمِزاح إذا جاء في وقته ولطفه صار دواءً للنفس، أما إذا استبدّ بالإنسان حتى صار عادة ولوناً دائماً في الكلام والفعل، انقلب من نِعمة إلى نِقمة، ومن وسيلة لتلطيف الحياة إلى آفة تصيب هيبة صاحبها.
 
والنفس التي تُدمِن الهزل والاستهتار المُفرِطَين، تفقد قدرتها تدريجياً على الانضباط والتوازن، وتمضي به في مسارات اللهو، واللغو، والباطل، ومن هنا عبّر الإمام (ع) بدقة: "بَطَلَ جِدُّهُ"، أي تعطّلت فاعلية الجد، كأنها بطلت من أصلها.
 
إن علم النفس الحديث يؤكِّد أن السُّلوك المتكرِّر يخلق أنماطاً عصبية في الدماغ، وأن المبالغة في سلوك معين ترسّخ عادة وتضعف ضدها، فإذا غلب الهزل على الإنسان، نشأت عنده استجابات تلقائية تميل إلى الاستسهال، والسخرية، والاستهزاء، في حين تبهت أنماط الانضباط والمثابرة والجدية، هكذا يصبح الفرد عاجزاً عن مواجهة المواقف الكبرى بنفسٍ متماسكة.
 
والمجتمع الذي يكثر فيه الهزل يُبتلى بانعدام المعايير الأخلاقية وضعف الالتزام، فإذا عمّت السُّخرية من كل شيء، سقطت مهابة القيم، وانفرط عقد المسؤولية، لذلك يأتي الجِد والرَّصانة والاتزان ليشكِّلا العمود الفقري للمجتمع الإنساني، فإذا ضعف العمود انهار البناء.
 
الجِدُّ والالتزام هما جوهر الإنسان قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴿الانشقاق: 6﴾ فعلى المرء أن ينهض بمسؤوليته أمام نفسه وربه والناس، أما الهزل المفرط فهو انسحاب من المعنى الحقيقي للحياة، فالإمام (ع) يحذّرنا من التفريط بأثمن ما نملك: القدرة على أن نحيا بجدارة، لا أن نمرّ على الدنيا مرور المستهزئ العابث.

بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي
captcha