
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ بَلَغَ غايَةَ أَمَلِهِ فَلْيَتَوَقَّعْ حُلُولَ أَجَلِهِ".
في هذه الجوهرة يكشف لنا الإمام (ع) عن معادلة مهمَّة تدعونا إلى التَّأمُّل في طبيعة العمر الذي، يمرُّ بسرعة مُذهلة، ولا نعرف مداه من جهة، ولا نعرف متى ينقضي، وتدعونا إلى التَّأمُّل في حقيقة أن الإنسان مهما امتدَّ به الطموح والأمل فإن النهاية الحتمية هي حلول أجله وانقضاء عمره.
مِمّا لا شكَّ فيه -قارئي الكريم- أن الأمل هو روح الحياة، والشُّحنَة التي تدفع الإنسان إلى خوض غمارها وبنائها وتطويرها واستثمار خيراتها، فلولا الأمل ما زرع زارع، ولا بنى بنَّاء، ولا اخترع مخترع، ولا تعلَّم طالب علم، ولا أنجبت امرأة، ولولاه لضاقت الحياة بأهلها، ولقعد الإنسان عن أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام.
إنّ العالَم قائم على الأمل، وإنّ الإنسان يحيا كذلك على الأمل، وإذا سُلِب منه الأمل فلا يخطو المجتمع الإنساني أيّ خطوة باتّجاه التكامل، من هنا عبّر النبيّ الأكرم (ص) عن الأمل بأنه رحمة من الله، حيث قال: "إنَّمَا الأَمَلُ رَحمَةٌ مِنَ اللّهِ لِاُمَّتي، لَولَا الأَمَلُ ما أرضَعَتْ أُمٌّ وَلَداً، ولا غَرَسَ غارِسٌ شَجَراً" ورُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "الدُّنيا بِالأَمَلِ".
ورُوِيَ أنه: بَينَما نبي الله عيسى بن مريم (ع) جالِسٌ وشَيخٌ يَعمَلُ بِمِسحاتِهِ يُثيرُ بِهَا الأَرضَ، فَقالَ عيسى (ع): اللّهُمَّ انزِع مِنهُ الأَمَلَ. فَوَضَعَ الشَّيخُ المِسحاةَ وَاضطَجَعَ، فَلَبِثَ ساعَةً. فَقالَ عيسى (ع): اللّهُمَّ اردُد إلَيهِ الأَمَلَ. فَقامَ فَجَعَلَ يَعمَلُ .فَقالَ لَهُ عيسى (ع): ما لَكَ بَينَما أنتَ تَعمَلُ ألقَيتَ مِسحاتَكَ وَاضطَجَعتَ ساعَةً، ثُمَّ إنَّكَ قُمتَ بَعدُ تَعمَلُ؟! فَقالَ الشَّيخُ: بَينا أنَا أعمَلُ إذ قالَت لي نَفسي: إلى مَتى تَعمَلُ وأنتَ شَيخٌ كَبيرٌ؟! فَأَلقَيتُ المِسحاةَ وَاضطَجَعتُ. ثُمَّ قالَت لي نَفسي: وَاللّهِ ما بِذلِكَ مِن عَيشٍ ما بَقيتَ، فَقُمتُ إلى مِسحاتي.
هذا هو الأمل، وهذا هو دوره في الحياة، لكن الإمام (ع) ينبهنا إلى أن بلوغ الأمل وتحققه هو بداية النهاية، غاية الأمل في الدنيا توازي قرب الأجل، لأن الحياة ليست دار خلود، وكل تمامٍ فيها مقدمةٌ لفناء.
الإنسان حين يقطع شوط حياته ساعياً خلف آماله، يتعلَّم، يتطور، يجمع المال، يبني المجد، يُشيّد البُنيان، ويتعلَّق بالنجاح، يظن أن الغاية هي الاكتمال، غير أن لحظة الكمال نفسها تحمل في طيّاتها بذرة الزوال، فتمام الشيء يعني بداية انحلاله، تمام الصحة يسبق المرض، وامتداد العمر يسبق الموت. هكذا يسوقنا الإمام إلى وعيٍ أعلى: لا تغترّ بالوصول، فالوصول نذير الرحيل.
هذه المعادلة تحمل دواءً للقلوب التي تنسى حتمية الموت عند لذّة الإنجاز، فالنجاح الحقيقي ليس أن يُمسِك الإنسان بغاية الأمل وحسب، بل أن يتهيّأ لما بعد الأمل، هنا يلتقي البُعدان: النفسي الذي يوازن بين الطموح والواقعية، والروحي الذي يذكّرنا بأننا ضيوف عابرون، وأن الأصل هو ما نتزوَّد به لدار البقاء.
ختاماً أنَبِّه إلى أن هذه المعادلة لا تدعونا إلى التشاؤم، أو الانقطاع عن السَّعي والعمل، فالسَّعي مطلوب حتى آخر لحظة من عمر الإنسان، وعلى الإنسان أن يظل مُؤَمِّلاً عاملاً ما دام قادراً على العمل، شرط أن يظلَّ يَقِظاً، لا يغفل عن أعظم حقيقة من حقائق الحياة وهي الموت والارتحال عنها إلى الدار الآخرة.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي