ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

مَنْ تَجَبَّرَ حَقَّرَهُ اللّهُ وَوَضَعَهُ، ومَنْ تَواضَعَ عَظَّمَهُ اللّهُ وَرَفَعَهُ

23:46 - October 22, 2025
رمز الخبر: 3502124
بيروت ـ إکنا: إن التجبُّر فهو أشدّ من التكبر، لأنّه يتضمّن معنى القهر والتعالي بالفعل، لا مجردَ شعورٍ نفسي؛ فالمتجبّر لا يكتفي بالاعتداد بنفسه، بل يسعى إلى إذلال غيره وإخضاعهم، ولذلك كثيراً ما يُقرَن بصفتي التعسّف والظلم.
مَنْ تَجَبَّرَ حَقَّرَهُ اللّهُ وَوَضَعَهُ، ومَنْ تَواضَعَ عَظَّمَهُ اللّهُ وَرَفَعَهُورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ تَجَبَّرَ حَقَّرَهُ اللّهُ وَوَضَعَهُ، ومَنْ تَواضَعَ عَظَّمَهُ اللّهُ وَرَفَعَهُ".

وتنطوي هذه الجوهرةُ العلويةُ الكريمةُ على معادلتين متقابلتين مهمتين، الأولى منهما: تربط بين تَجَبُّرِ الشخصِ على الناس، وتحقيرِ اللهِ للمتجبِّر جزاءً على تجبُّره، والثانية: تربط بين تواضعِه لهم، وتعظيمِ اللهِ مكانتَه فيهم.
 
التجبُّر: هو التكبُّر، والتعاظم، وادِّعاء العظمة، والتعالي على الخلق. يُقال: تجبّر فلانٌ إذا تعاظم وتكبَّر على الناس قهراً وبطَراً. فالتجبُّر فعلُ الإنسانِ حين يتعاظم ويتكبَّر على غيره، ويدّعي لنفسه ما ليس له، فيكون مرادفاً للتكبّر والاستعلاء.

غير أنّ العلماءَ ذكروا فرقاً بين التكبُّر والتجبُّر؛ فقالوا: إنّ التكبُّر مأخوذ من الكِبْر، وهو اعتقادُ الإنسان أنّه أعظمُ من غيره، سواء أظهر ذلك أم لم يُظهره. وقد يكون شعوراً داخلياً يرى فيه المرءُ نفسَه فوق الآخرين، أو سلوكاً ظاهراً يتجلّى في ازدراء الناس أو رفض الحق. 
 
أمّا التجبُّر فهو أشدّ من التكبر، لأنّه يتضمّن معنى القهر والتعالي بالفعل، لا مجردَ شعورٍ نفسي؛ فالمتجبّر لا يكتفي بالاعتداد بنفسه، بل يسعى إلى إذلال غيره وإخضاعهم، ولذلك كثيراً ما يُقرَن بصفتي التعسّف والظلم.
فالتجبّر فعلٌ خارجيّ يُترجم تلك الحالةَ في صورة قهرٍ أو تعالٍ على الناس. وبعبارةٍ أخرى: كلُّ متجبِّرٍ متكبّر، وليس كلُّ متكبّرٍ متجبِّراً.
 
أمّا التواضع فهو أن يُخْفِض المرءُ نفسَه عمداً من غير مذلّة، بل عن كرمٍ وسماحة، ويسلكَ مسلكَ المساواة مع الناس، فيعاملَهم من غير استعلاءٍ عليهم. وينشأ التواضعُ من ثقةٍ بالنفس، وتقديرٍ لها، وحرصٍ على كرامتها، ومعرفةٍ بمقامها بين يدي الله.
 
فالمتواضعُ يجلس مع الفقير على الأرض بالرضا نفسه الذي يجلس به مع الغنيّ على الكرسيّ الفخم، لأنّه يرى أنّ كرامة الإنسان أسمى من الأشياء والمناصب والثراء، ويسألُ من هو دونه سناً أو علماً أو منصباً إن وجد عنده علماً، ولا يستنكف أن يتعلّم من أصغر الناس، ولا شكّ أنّ التواضع قيمةٌ أخلاقية عظيمةٌ ترفع صاحبها عند الله والناس.
 
وبعد اتّضاح معنى التجبُّر والتواضع، تتجلّى لنا المعادلتان اللتان اشتملت عليهما الجوهرةُ العلويةُ الكريمةُ: من تجبّر على الناس صغّره اللهُ في أعينهم وحقّره، ومن لزم طريقَ التواضع عظّم اللهُ مقامَه في القلوب، ورفع منزلتَه عنده.
 
ولا جدالَ، قارئي الكريم، في أنّ المتجبّر إنسانٌ يعيش أسيرَ وهمِ العظمة؛ يتصوّر نفسَه فوق الناس، فينسى أو يتجاهل حقيقةَ ضعفه البشري، وأنّه جاء من نُطفةٍ مَذِرَة، وينتهي إلى جيفةٍ قَذِرَة، وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يُصنَع به. يتجاهل أو يغفل عن أنّ جبروته ليس إلا محاولةً لتعويض خوائه الداخلي، وعدمِ ثقته بنفسه؛ ولذلك كان مآله الحتميّ الذلَّ والهوانَ والتحقير، لأنّ اللهَ تعالى لا يرضى بهذا التعالي الزائف، ولا الناسُ يرضونه.
وقد رأينا في التاريخ ملوكاً وأباطرةً ملأوا الأرضَ صخباً، ثم سقطوا سقوطاً مدوّياً، حتى غدَوا عبرةً لمن كان له قلبٌ حيٌّ يقِظ. فالتجبّر ليس سموّاً، ولا رفعةً حقيقية، ولا كرامةً ولا منزلةً واقعية، بل هو سقوطٌ وتردٍّ؛ فمتى استحكم في القلب أطفأ نورَ العقل، وأفقد صاحبَه القدرةَ على رؤية ذاته كما هي: ضعيفةً محتاجةً إلى الله، مستندةً إلى رحمته.
 
وعلى النقيض من التجبّر يكون التواضع، وهو لا يعني الخضوعَ المُذِلّ، بل وعيٌ عميقٌ بالمكانة الحقيقية للإنسان أمام عظمة الخالق. فالمتواضعُ ينظر إلى الآخرين بعينِ الرحمة، لا بعين الاستعلاء، وهو لا ينقص من قَدْر نفسه، بل يثبتها في موضعها الصحيح: كائنٌ مكرَّمٌ بإنسانيته لا بسطوته.
 
والعجيب أنّ التواضع يجلب للإنسان ما يهرب منه المتجبّر: يجلب إليه الاحترامَ والتقديرَ والرفعةَ الحقيقية؛ فالنفسُ التي تتواضع للناس لا تنكسر أمامهم، بل ترتفع في وجدانهم، ويجدون فيها ملاذاً آمناً يفيض بالطمأنينة. ولذلك قال الإمام أمير المؤمنين (ع): "ثَمَرَةُ التَّواضُعِ المَحَبَّةُ"، إذ لا قلبَ يأنس بالمتجبّر، بينما ينجذب تلقائياً إلى المتواضع.

بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي
captcha