
"بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
التفاسير المعاصرة – بخلاف التفاسير التقليدية – لا تكتفي ببيان المعاني اللفظية أو اللغوية للآيات، بل تحاول أن تستنطق
النصّ القرآني ضمن سياقاته الحضارية والاجتماعية والإنسانية، أي أنها تقرأ
القرآن الکریم بوصفه مشروعاً لبناء الإنسان والمجتمع والتاريخ.
من أبرز المقومات الحضارية التي ركزت عليها التفاسير المعاصرة:
1. مركزية التوحيد كركيزة حضارية:
(تفسير العلامة الطباطبائي والشهيد مطهري نموذجاً):
التوحيد ليس فقط عقيدة، بل هو أساس رؤية كونية شاملة ترى أن كل شيء من الله وإليه يعود، مما يُنتج حضارة لا تعبد القوة ولا المال.
التوحيد يحرر الإنسان من عبودية الإنسان، وهذا ما أسماه العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان بـ"التحرر الوجودي من هيمنة الطبيعة والبشر".
2. كرامة الإنسان ودوره كخليفة:
(الآية: {ولقد كرمنا بني آدم} و {إني جاعل في الأرض خليفة}):
في التفاسير المعاصرة كـتفسير المنار والميزان، يُنظر إلى الإنسان كعنصر فاعل في التاريخ لا انه مجرد مخلوق سلبي.
الخليفة ليس نائبًا فقط عن الله، بل هو صانع للحضارة بقدر التزامه بالمنهج الإلهي.
3. العقل والتفكر والتدبر كأدوات حضارية (القرآن والعقلانية):
القرآن يدعو إلى التدبر والتعقل أكثر من أي دعوة شعائرية، مما يدلّ على أن
الحضارة الإسلامية عقلانية بطبيعتها.
كما في تفسير محمد عبده: "لا حضارة بدون عقل، ولا دين بدون فكر".
4. العدل والشورى كنظامين سياسيين واجتماعيين:
{إن الله يأمر بالعدل} و {وأمرهم شورى بينهم}.
التفاسير المعاصرة تعتبر أن العدالة ليست قيمة أخلاقية فقط، بل هي شرط قيام المجتمع المتوازن.
والشورى تعني المشاركة، أي لا مركزية في بناء السلطة، وهو ما يناقض الاستبداد.
5. العلم والعمل ـ كقاعدة إنتاج حضاري:
الآيات التي تحثّ على العلم والمعرفة تفتح الطريق لتفوق حضاري (انظر: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}).
تفاسير معاصرة كـالميزان تؤكد على أن العلم هو أساس التقدم الحضاري لا مجرد وسيلة دينية.
6. الزهد العملي لا السلبي:
الزهد في المفهوم القرآني لا يعني الانسحاب من الحياة، بل التحرر من التعلق بالدنيا.
الحضارة لا تُبنى بالترف ولا بالرهبنة، بل بالزهد الإيجابي كما بيّنه الإمام علي(ع): "الزهد كله بين كلمتين من القرآن". ﴿لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم﴾ ، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.
يتبع ...
بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري