ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة....

مَنْ أَخْطَأَهُ سَهْمُ الْمَنِيَّةِ قَيَّدَهُ الْهَرَمُ

23:19 - November 03, 2025
رمز الخبر: 3502281
بيروت ـ إکنا: إنّ سهم المنيَّة استعارةٌ بليغةٌ للموت الذي يُصيب الإنسان فجأة، كالسهم الذي لا يُخطئ هدفه في العادة، و"قيدُ الهَرَم" تجسيدٌ للشيخوخة التي تقيِّد حركة الإنسان وتقتل حيويَّته البدنية.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ أَخْطَأَهُ سَهْمُ الْمَنِيَّةِ قَيَّدَهُ الْهَرَمُ".
 
حقيقةٌ لا تحتاج إلى برهانٍ يُثبتها، لأنها واحدةٌ من أعظم الحقائق الوجودية المُعاشة، فكل إنسانٍ هدفٌ لسهام الموت في أيِّ لحظةٍ، فإن لم يمت في ريعان شبابه، فإن الهَرَمَ سيلاحقه ويُقيّده بشيخوخةٍ تُضعف بدنه، وتذهب بقوّته، وتحدّ من حركته، والهَرَمُ نذيرُ الموت، بل بدايته، حيث يغزو الضَّعفُ بدنه، وتخور قواه، وتتدهور طاقته، وتعصف به الأمراض، حتى إنَّه ليعجز عن المشي، أو القيام، أو الأكل بشكلٍ طبيعي، وقد يفقد بعض حواسه، من النَّظر والسَّمع، وقد يُبتلى بفقدان الذاكرة.

فسهمُ المنيَّة استعارةٌ بليغةٌ للموت الذي يُصيب الإنسان فجأة، كالسهم الذي لا يُخطئ هدفه في العادة، و"قيدُ الهَرَم" تجسيدٌ للشيخوخة التي تقيِّد حركة الإنسان وتقتل حيويَّته البدنية.
 
لقد أكَّد القرآن الكريم حقيقةَ الموت والهَرَم في العديد من الآيات، منها قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴿الروم:54﴾.
 
هذه الآية الكريمة تُقدِّم لنا صورةً حسِّيةً يعيشها الإنسان، يمرّ بها كلُّ فردٍ من أفراد بني الإنسان، على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأوطانهم، فبدءُ حياة الإنسان صورةٌ باهتةٌ من صور الحياة، لا تُرى إلا بواسطة المِجهر، حيث يبدأ خلقُ الإنسان من نطفةٍ لا تبدو في مرأى العين أكثرَ من سائلٍ مختلط، ثم يتدرَّج من نُطفةٍ إلى عَلَقةٍ، إلى مُضغةٍ، إلى عظامٍ، إلى لحمٍ يكسو تلك العظام، ثم إلى وليدٍ ينشقُّ عنه رحمُ الأم، فإذا هو إنسانٌ يأخذ مكانه في المجتمع البشري، ويتدرَّج في مدارج الحياة من الطفولة إلى الصِّبا، إلى الشباب والكُهولة، ثم ينحدر إلى الشيخوخة والهَرَم.
 
هذا بعضُ ما لله تعالى في الإنسان، فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلِق؟ ثم لينظر كيف دار دَورته في الحياة، كما يدور القمر في دَورته من الهلال إلى المحاق!
 
الأمرُ الذي يلفت النظرَ في الآية الكريمة أن الله تعالى لم يقل: خلقكم ضِعافاً أو في حالة ضعفٍ، وإنما قال: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ"، ممّا يعني أنَّ الضعف هو المادَّة الأولى للإنسان، المادَّةُ التي يُصاغ منها كيانُه. والضعفُ الذي تشير إليه الآية ذو معانٍ ومظاهرَ شتّى في تكوين هذا الإنسان، ثم يتحوَّل من الضَّعف إلى القوَّة، ثم يتحوَّل منها إلى الضَّعف والهَرَم. وهذه الأطوار لا يفلت منها أحدٌ من بني الإنسان، فهم أبناءُ الفناء، ولا تتخلَّف مرَّةً فيمَن يُمَدُّ له في العمر، ولا تُبطئ عن موعدها المضروب.
 
ومنها قوله تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴿يس: 68﴾ فالشيخوخةُ نكسةٌ إلى الطفولة، ولكن بغير ملاحتها وبراءتها المحبوبة؛ فالطفولةُ تكون واعدةً بالقوَّة، والشيخوخةُ واعدةً بالضَّعف والانهيار، فما يزال الشيخ يتراجع في كلِّ شيء، وينسى ما علم، وتضعف أعصابه، ويضعف فكره واحتماله، حتى يرتدَّ طفلاً. ولكن الطفل محبوبُ اللَّثغة، تبتسم له القلوب والوجوه حتى حين تصدر منه حماقةٌ ما، أمّا الشيخ فلا تُقالُ له عثرةٌ إلا من عطفٍ ورحمة، وهو مَثارُ السخرية كلَّما بدت عليه بعضُ مظاهر الطفولة وهو عجوز، وكلَّما استحمق وقد قوَّست ظهرَه السنون!
 
وجاء عن الإمام أمير المؤمنين (ع): "ثَمَرَةُ طُولِ الحَيَاةِ السَّقَمُ وَالهَرَمُ"، وقال (ع): "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ كَثُرَتْ مَصَائِبُهُ".
 
فالنتيجةُ التي نخلص إليها أنَّ الإنسان بين حالَيْن لا ثالثَ لهما: فإمّا أن يُصيبه سهمُ الموت، أو يطولَ بقاؤه في الدنيا فيشيخ ويهرم ويحدث له ما ذكرناه آنفاً، ممّا يقتضي منه أن يتوقَّع الأمرين وأن يستعدَّ لهما، مستفيداً من وفرةِ قواه ومرحلةِ شبابه، فالشبابُ قوّةٌ مؤقّتة، والصِّحّةُ نعمةٌ زائلة، والفرصةُ سانحةٌ قبل أن يُقيِّده الهَرَم.
 
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي
captcha