
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ قَبِلَ عَطاءَكَ فَقَدْ أَعانَكَ عَلى الْكَرَمِ".
هذه الجوهرةُ العَلَويّةُ الكريمةُ تقلبُ التصوّرَ التقليديَّ للعطاء رأساً على عقب؛ فالمتلقّي للعطاء ليس طرفاً مستفيداً وحسب، بل هو شريكٌ فاعلٌ في إتمام فضيلة الكرم.
العطاءُ في المنظور الإسلاميّ تجسيدٌ عمليٌّ لشكر نعم الله، فالخيرُ الذي يمنحه اللهُ للإنسان ليس مقصوراً على الاستمتاع الشخصيّ، بل هو أمانةٌ يُستثمرها في خدمة الآخرين. قال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿الحديد:7﴾.
إقرأ أيضاً:
فالآيةُ الكريمةُ تدعو المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله إلى الالتزام بلوازم إيمانهم، وتجسيده حركةً في الحياة وتفاعلاً في الميدان الاجتماعي، من خلال الإحساس بحاجات المحتاجين، فيعطوهم ممّا رزقهم الله واستخلفهم عليه، وجعله أمانةً في أيديهم، وجعلهم وُكلاءَ عليه. ومعلومٌ أن على الوكيل أن يراعي أمرَ مُوكِّلِه، فحين يُنفق المؤمنون من أموالهم في وجوه البرّ، فإنما يُنفقون من مالِ الله الذي آتاهم ومَلَّكهم إيّاه، والمؤمن لا يتخلّف عن ذلك أبداً.
إنّ الإنفاقَ في سبيل الله عبادةٌ، عبادةٌ ماليةٌ، تكون تارةً واجبةً كالزكاة، وزكاة الفطرة التي يجب على الصائم أداؤها صبيحةَ يوم العيد، وتكون أخرى مستحبّةً في سائر الموارد التي يبذل فيها المَرءُ مالَه متقرّباً بذلك إلى الله تعالى. ولذلك قرنَ اللهُ تعالى بين الصلاة والزكاة في عشرات الموارد، واعتبرَ الإنفاقَ في سبيله من علائم الإيمان بل من أركانه. قال تعالى: ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴿2﴾ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿البقرة: 3﴾.
فالآيةُ الكريمةُ تذكر ثلاثَ سماتٍ رئيسةٍ للمتّقين: إيمانهم بالغيب، وإقامتهم الصلاة التي تربطهم بعالَم الغيب، وإنفاقهم ممّا رزقهم الله من مالٍ، فهم يعترفون ابتداءً بأنّ المال الذي في أيديهم من رزق الله لهم، لا من خلق أنفسهم. ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البرُّ بالضعفاء، والتضامنُ بين عيال الخالق، والشعورُ بالآصرة الإنسانية وبالأخوّة البشرية.
وتتجلّى قيمةُ ذلك كلّه في تطهير النفس من الشُّحّ، وتزكيتها بالبِرّ، ممّا يُنشئ حياةً اجتماعيةً متماسكةً متضامنة، يتعاون الناس فيها ويتكافلون، وتَحول دون تكوين مجتمعٍ تتحكّم فيه الأنانيةُ والفردانية. فيأمن العاجزُ والضعيفُ والقاصرُ على قوتهم وحاجاتهم الضرورية، ويشعرون جميعاً بأنهم يعيشون بين قلوبٍ طاهرةٍ ونفوسٍ زاكية، لا بين أظفارٍ ومخالبَ وأنياب!
يقدّم لنا الإمامُ أميرُ المؤمنين (ع) في جوهرته الكريمة رؤيةً عميقةً للعلاقة بين المُعطي والمُتلقّي للعطاء؛ فالكرمُ فضيلةٌ يشترك في فعلها طرفان: المُعطي والمُتلقّي، ولا تكتمل إلا بقبول الطرف الآخر للعطاء. فالمتلقّي بقبوله العطاءَ يمنح المُعطي فرصةَ ترجمةِ نواياه الكريمة إلى فعلٍ ملموس، فيصبح بذلك شريكاً في تحقيق فضيلة الكرم.
وهذا الفَهمُ يُحرِّر العطاءَ من علاقةِ القوّة والضعف التي قد تُلصق به، ليجعله علاقةَ تعاونٍ وتكاملٍ بين أفراد المجتمع. فكما أنّ الشجرةَ تحتاج إلى تربةٍ خصبةٍ تقبلُ بذورَها لتُثمر، يحتاج الكرمُ إلى مَن يقبل العطاءَ لينمو ويُزهر.
وما نستنتجه مما سبق أنّ الإمامَ أميرَ المؤمنين (ع) يدعونا إلى تغيير نظرتنا إلى العلاقة بين المُعطي والمُتلقّي للعطاء؛ فبدل أن تكون علاقةً بين قادرٍ وعاجز، أو بين يدٍ عُليا ويدٍ سُفلى، تكون شراكةً في الخير وتعاوناً على البرّ. والمجتمعُ الذي يتشرّب هذه الثقافةَ يصبح مجتمعاً متماسكاً متعاوناً، يتبارى أفراده في العطاء كما في القَبول، مدركين أنّ في ذلك إعلاءً لكرامة الإنسان، وتحقيقاً لإرادة الله في جعل الخير دائرةً متكاملة.
فالعطاءُ شكرٌ للنِّعَم، والقبولُ إتمامٌ للكرم، وكلاهما يستظلّ برضا الله تعالى الذي جعل العطاءَ سبيلاً إلى الفلاح والنجاح.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي