
في هذه الجوهرة الكريمة يربط الإمام أمير المؤمنين (ع) بين العقل والقناعة، ومقتضى ذلك أن العاقل يقنع، وأن الذي لا يقنع فهو الجاهل بلا نقاش.
فها هنا ركنان أساسيان:
العقل: وهو القوة التي تدرك حقائق الأمور، والنور الذي يهدي الإنسان إلى الحق، وإلى ما يجب عليه، وما ينبغي أن يتجنبه ويحذره، وبكلمة أخرى: العقل نور فطري يودعه الله في الإنسان ليهديه إلى الحقائق، ويميز به بين الخير والشر، وهو منشأ للتكليف والجزاء، وشرط لفهم الشرائع، فبه يُدرك الإنسان أن الطاعة خيرٌ، وأن المعصية شرّ، وأن السعادة لا تنال إلا بموافقة أمر الله. العقل هو "الرسول الداخلي" كما أن النبي هو "الرسول الخارجي". والشرع والعقل وجهان لهداية واحدة، ما يأمر به العقل الصافي يأمر به الشرع، وما ينهى عنه الشرع ينهى عنه العقل.
جاء في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين (ع): "العَقْلُ دَلِيْلُ المُؤْمِنِ".
وجاء عن الإمام جعفر الصادق (ع) قوله: "العَقْلُ مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمَانُ واكْتُسِبَ بِهِ الجِنَانُ".
وجاء عن الإمام موسى الكاظم (ع): "يَا هِشَامُ، إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً، وَهِيَ الأَنْبِيَاءُ وَالأَئِمَّةُ، وَحُجَّةً بَاطِنَةً، وَهِيَ العُقُولُ".
والقناعة: وهي تعني إدراك حدود الحاجة والاكتفاء بما يسدها، وهي ناتجة عن إدراك العقل بأن السعادة لا تقاس بقدر ما يملك الإنسان، بل باكتفائه بما يسد حاجته دون التطلع إلى مزيد يمكنه الاستغناء عنه، قال الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنْ عَقَلَ قَنَعَ، وَمَنْ قَنَعَ اسْتَغْنَى".
فالقناعة ثمرة مباشرة للعقل، لأن من عرف حقيقة الدنيا، وأنها محكومة بالزوال، وكل ما فيها مَتاع زائل، وأن المرء مقسوم له رزقه فيها، لا يُنقصه الحرص ولا يزيده الطمع، علم أن السعي وراء الزائد لا يورث إلا القلق والتوتر والتعب، فيقوده ذلك بالضرورة إلى القناعة والاكتفاء بالموجود.
ومن المؤكَّد أن إعمال العقل هو الذي يؤدي إلى القناعة، لأنه ليس كل عاقل قانع بالضرورة، ولذلك ربط الإمام (ع) بين التعقُّل والقناعة وأقام بينهما علاقة السبب والمسبب، فقال: "مَــنْ عَقَــلَ قَنَــعَ" فمن استعمل عقله واسترشده واستهدى بهديه، وأعمل فكره في فهم الحياة وسننها، لا بد أن يصل إلى حقيقة أن القناعة هي كنز لا يفنى.
العقل قارئي الكريم يولِّد القناعة في النفس عبر مسارين متوازيين:
المسار الأول: التفريق بين الحاجات والرغبات، فالحاجات محدودة ومعروفة، أما الرغبات فلا حد لها، بل هي في تكَثُّرٍ دائم، من يعقل هذه الحقيقة، يدرك أن السعي وراء إشباع الرغبات لا نهاية له، فيقنع بما يكفيه، ويحرر نفسه من عبودية الطمع.
المسار الثاني: أن يدرك الإنسان أنه من غير الممكن أن ينال كل شيء في الحياة، فالحياة تعطيه وتأخذ منه، وهي تعطيه بقدر معين، ويدرك أيضا أن سعيه وراء كل شيء يكلِّفه الكثير، يُفقِدُه راحة البال، وراحة البدن، ويستهلك وقته، ويؤلم قلبه، وقد يستنزف كرامته، فيدعوه ذلك إلى القناعة بالميسور الذي يسد حاجته.
اليوم قارئي الكريم نحن أحوج ما نكون إلى التعقُّل والقناعة، فنحن نعيش في زمن يتفنن في إثارة رغباتنا، الإعلانات تهجم علينا ليلا ونهارا وبأساليب شتّى، والموضة تتجدد كل ساعة، والجيران والأصدقاء يتسابقون في اقتناء الجديد، والنفس ترغب في المزيد والمزيد.
هنا يأتي دور العقل ليكبح جماح النفس، ليكون هو الحاجز بيننا وبين دوّامة الاستهلاك التي تستنزف أموالنا وتزعج بالنا، وليحرِّرنا من جموح رغباتنا، وليقول لنا: أن الغنى الحقيقي ليس في امتلاكنا كل شيء، ليس في تحقيق كل ما نرغب به، بل في اكتفائنا بالقليل الذي يغنينا عن الكثير.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي