رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "آفَةُ الإيْمانِ الشِّـرْكُ".
إن الشِّرك بالله آفة كل الآفات، وسبب كل بلاء ونِقمة وانحراف، وما واجه القرآنُ الكريم شيئاَ كما واجه الشِّرك، تلافياً لآثاره الخطيرة على الفرد والمجتمع، فالشرك أوهام يختلقها الإنسان ويجعل منها عقيدة يعتقد بها، دون أدنى دليل يثبته، وكيف للوهم أن تكون له حقيقة يُستَدَلُّ عليها، قال تعالى: "مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"﴿40/ يوسف﴾.
إنهم يتخيَّلون ويتوهَّمون شركاء لله ليس لهم وجود، مجرد أسماء يسمونها، وتصورات يتصورونها، فيُسبغون عليها صفات الألوهية أو الربوبية.
إن هذه الأرباب سواء كانت من البشر أم من غير البشر ليست من الألوهية والربوبية في شيء، فالألوهية والربوبية لا تكون إلا لله الواحد القهّار الذي يخلق ويقهر كل الخلق.
إن الشرك فضلاً عن كونه مجرد أوهام وتخرّصات فإنه على النقيض تماماً من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والتي تتوجه إلى إله واحد، وتطلب من إله واحد، وحين تقع في أزمة من الأزمات لا تحتار فيمن تفزَع إليه بل تلجأ إلى الله الواحد الأحد، قال تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"﴿30/ الروم﴾.
وقد جاء في الروايات أَنَّهُ سُئِلَ مَوْلَانَا الإمام الصَّادِقُ (ع) عَنِ اللَّهِ؟ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَلْ رَكِبْتَ سَفِينَةً قَطُّ"؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: "فَهَلْ كُسِرَ بِكَ حَيْثُ لَا سَفِينَةَ تُنْجِيكَ، وَلَا سِبَاحَةَ تُغْنِيكَ"؟. قَالَ: بَلَى .قَالَ: "فَهَلْ تَعَلَّقَ قَلْبُكَ هُنَاكَ أَنَّ شَيْئاً مِنَ الْأَشْيَاءِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنْ وَرْطَتِكَ"؟ قَالَ: بَلَى .قَالَ الصَّادِقُ (ع): "فَذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ اللَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْإِنْجَاءِ حِينَ لَا مُنْجِيَ ، وَ عَلَى الْإِغَاثَةِ حِينَ لَا مُغِيثَ".
ورغم أن وحدانية الله لا تحتاج إلى البرهنة، فقد أثبتت البراهين ذلك، وأثبتت استحالة وجود الشريك له، وأثبتت أن للتوحيد مراتب، أولها: ما يُعرَف بتوحيد الذات والصفات، وتعني أن ذات الله واحدة لا تتجَزّأ ولا تتبعَّض، وليس لها شبيه ولا نظير ولا عديل.
والمرتبة الثانية: التوحيد في الخالقية، وتعني أن لا خالق إلا الله تعالى، فهو الذي خلق الكون كله، وأن لا مُؤَثِّرَ في الوجود سواه، والمرتبة الثالثة: التوحيد في العبادة، وتعني أن لا معبود في الوجود سواه تعالى، فلا تكون عبادة لغيره.
والمرتبة الرابعة: التوحيد في الربوبية، وتعني أنه تعالى وحده هو المُدَبِّر والمُنَظِّم لكل الوجود، وأن لا مُدَبِّر سواه، والمرتبة الخامسة: التوحيد في المالكية، وتعني أن الله تعالى هو المالك الحقيقي للوجود بأسره تكويناً وتشريعاً. وكل مالك سواه فملكه مَجازي وغير مُستقلٍّ عن ملك الله لأنه ذاته مملوك لله.
والمرتبة السادسة: التوحيد في الحاكمية، وتعني أن الله وحده الحاكم والمُشرِّع. وكما أن للتوحيد مراتب ودرجات كذلك الشِّرك له مراتب ودرجات، ويمكننا أن نعرف مراتب الشرك من مقارنتها مع مراتب التوحيد، فقد يُشرك الإنسان في مرتبة التوحيد حين يعتقد بأن ذات الله عبارة عن آلهة ثلاثة اجتمعت في إله واحد كما يذهب إلى ذلك البعض، أو أنها تتشكل من الآب والابن والرُّوح القدس، وقد يعتقد بوجود إلهين اثنين إله الخير وإله الشر، وقد يعتقد بوجود خالق غير الله، وقد يعتقد أن المُؤَثِّرين في الوجود أكثر من واحد، كما لو نسب ذلك إلى قوى الطبيعة، أو الملائكة، أو الجن، أو مخلوقات أخرى خفية، بحيث يكون تأثيرها مستقلا عن إرادة الله تعالى، وهكذا.
وعلى ضوء ما سبق نفهم معنى قول الإمام أمير المؤمنين (ع): "آفَةُ الإيْمانِ الشِّـرْكُ".
فقد يؤمن الإنسان بالله ويكون موحداً في مرتبة أو مرتبتين من مراتب التوحيد، ولكنه يكون مشركاً في مراتب أخرى، ولهذا قال الله تعالى: "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ"﴿106/ يوسف﴾.
إن معظمنا يتصور أن توحيده لا شائبة فيه، ولكننا نغفل عن الشرك الخفي، فالإيمان لا يقتصر على الاعتقاد بوجود الله فقط، بل لا بد أن يكون المؤمن مَوَحِّداً لله في جميع المراتب التي سلفت الإشارة إليها، فيكون في جميع أحواله ومواقفه وقناعاته وحاجاته موحِّدا لله، لا يسأل سواه، ولا يخضع لغيره، ولا يأخذ بشرع غير شريعته، ولا يلجأ إلا إليه، ولا يرى أحداً ينفعه إلا الله، ويقضي حاجاته إلا الله، فمن تراه يكون كذلك؟!، وقد فَسَّرَ الإمام الباقر(ع) الشرك في الآية الشريفة المتقدمة فقال: "شِرْكُ طاعَةٍ ولَيْسَ شِرْكَ عِبادَةٍ، والمَعاصِي الَّتي يَرْتَكِبونَ، وهِيَ شِرْكُ طاعَةٍ أَطاعوا فِيْها الشَّيْطانَ فَأَشْرَكوا بِاللهِ في الطَّاعَةِ لِغَيْرِهِ". وروي عن رسول الله (ص) أنه قال: "يا أيُّها الناسُ! اتَّقُوا الشِّركَ، فإنّهُ أخفى مِن دَبِيبِ النَّملِ، فقالَ مَنْ شاءَ أن يقولَ: وكيفَ نَتَّقِيهِ وهُو أخفى مِن دَبِيبِ النَّملِ، يا رسولَ اللَّهِ؟! قالَ: قُولُوا: اللّهُمّ إنّا نَعُوذُ بكَ أن نُشرِكَ بكَ ونحنُ نَعلَمُهُ، ونَستَغفِرُكَ لِما لا نَعلَمُهُ".
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي