رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "آفَـةُ الْعَمَلِ الْبَطالَـةُ"
تعتبر البَطالة من أخطر الظواهر الاجتماعية السلبية آثاراً على حياة الفرد والمجتمع بشكل عام، وهي مفهوم يُطلَقُ على مجموعة من الأفراد الذين لا يجدون فرصة للعمل، أو يحبذون الراحة على العمل رغم قدرتهم عليه وحاجتهم الماسة إليه.
ويرى الباحثون: إنَّ البَطالة أنواع عديدة، فمنها: البَطالة الطبيعية التي تنشأ من خلل في نسبة العرض والطلب للوظائف، أي أن تكون نسبة طلب الوظائف أكثر من قدرة سوق العمل على التوظيف، ومنها: البَطالة الهيكلية التي تظهر نتيجة حدوث متغيرات في الوضع الاقتصادي، كحدوث رُكود فيه يؤدي إلى التخلي عن الموظفين والعمال، ومنها: البَطالة الاحتكاكية التي تحدث نتيجة ترك الموظفين لوظائفهم القديمة بهدف البحث عن وظائف جديدة رغبة في بيئة أفضل أو راتب أعلى. ومنها البَطالة المَوسِمية التي تؤثِّر سلبا على العمال الذين يعملون في مواسم معينة. ومنها البَطالة الكلاسيكية التي تحدث نتيجة ارتفاع الأجور.
وهناك نوع من البطالة لا ينتج عن العوامل التي تقدم ذكرها، بل ينتج عن طلب الراحة والدَّعة، وتفضيل اللهو والحياة العبثية على الحياة الجادة، وقد ينحو البعض إلى تفضيل الزُّهد السلبي أو العبادة على العمل والسَّعي، وهذا شائع في بعض أوساطنا، بحجة أن عليهم أن يتفرَّغوا لعبادة الله ورزقهم على الله تعالى.
ولا يختلف اثنان على أن البَطالة مسؤولة عن كثير النتائج الهدّامة للأفراد والمجتمع، إنها مسؤولة عن ارتفاع معدلات الجريمة مثل القتل، والسَّرقة، والانحراف، والوقوع في براثن المخدرات، وهي مسؤولة عن كثير من المشاكل الاجتماعية والأسرية والزوجية والطلاق، وسوى ذلك من النتائج المدمرة.
ولذلك أخذ الإسلام موقفا عالي السقف من البَطالة، ودعا إلى العمل وقدَّسَه، واعتبره عبادة بذاته، وأعلن أن الكادّ على عِياله (كالم،جا،هد) في سبيل الله، وكرَّم العاملين والمُنتجين ودعا إلى احترامهم وتقدير جهودهم، واعتبر عملهم استجابة لإرادة الله وَأَمْرِه باستثمار ما أودع للإنسان من ثروات في باطن الأرض وعلى ظهرها، ومشيئته في إعمارها وتطوير الحياة الإنسانية عليها، حيث قال تعالى: "...هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا..."﴿61/ هود﴾.
والإسلام يحارب الكَسَلَ والاتكالية، ويدعو إلى الجِدِّ وبذل الجهد من أجل تحصيل الرزق والانتفاع من بركات الله المودَعة في الأرض والاستمتاع بطيباتها، فقد جاء في الروايات أن صَحابِيَّين جاءا إلى رسول الله (ص) وهما يحملان أخاً لهما، فسألهما النبي (ص) عنه، فقالا: إنه لا ينتهي من صلاة إلا إلى صلاة، ولا يخلص من صيام إلا صيام، حتى أدركه من الجهد ما ترى، فقال رسول الله (ص): "فَمَنْ يَرْعى إبِلَهُ، ويَسْعى عَلى وُلْدِهِ؟" فقالا: نحن، فقال (ص): "أَنْتُمْ أَعْبَدُ مِنْهُ".
وسأل الإمام الصادق (ع) عن رَجلٍ، فقيلَ له: أصابته الحاجة. فقال (ع): "فَما يَصْنَعُ اليَومَ". فقيل له: في البيت يعبُد ربَّه عَزَّ وجَلَّ. فقال: "فَمِنْ أَيْنَ قُوْتُهُ". فقيلَ له: من عند بعض إخوانه. فقال (ع): "وَاللَهِ لَلَّذي يَقُوتُهُ أَشَدُّ عِبادَةً مِنْهُ"
إن الإسلام يكره البَطالة ويحاربها، ويرى أن العمل والسَّعي يجب أن يمتزج بالعبادة لله تعالى، فالعبادة تلبي حاجات الإنسان الروحية والمَعنوية والعمل يلبي حاجاته المادية، فهو يوازن بين هذين الأمرين بدقة، بل يعتبر أن السعي في توفير حاجاته المادية عبادة بذاته كما أسلفت، نلحظ ذلك في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿9﴾ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"﴿10/ الجمعة﴾.
ويكفي أن أورد لقارئي الكريم الحادثة التالية للدلالة على أهمية العمل والسعي، قال الإمام الصادق (ع): إن محمد بن المُنكَدر كان يقول: ما كنت أرى أن عليَّ بن الحسين يدعُ خَلَفا أفضل من علي بن الحسين حتى رأيت ابنه محمد بن عليٍّ (ع) فأردت أن أعِظَه فوعظني. فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارَّة، فلَقيَني محمد بن علي (ع) وكان رجلاً بادِناً، وهو مُتَّكئٌ على غلامين، فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مِثل هذه الحال في طلب الدنيا! أما إني لأَعِظَنَّهُ. فدنَوتُ منه، فسلَّمت عليه. فردَّ عَلَيَّ بِنَهْرٍ وهو يتصابُّ عَرَقاً. فقلت: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أرأيتَ لو جاء أَجَلُك وأنت على هذه الحالة ما كنت تصنع؟! فقال: "لَوْ جَاءَنِي الْمَوْتُ وَأَنَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، جَاءَنِي وَأَنَا فِي طَاعَةٍ مِنْ طَاعَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَكُفُّ بِهَا نَفْسِي وَعِيَالِي عَنْكَ وَعَنِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أَخَافُ أَنْ لَوْ جَاءَنِي الْمَوْتُ وَأَنَا عَلَى مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". فَقُلْتُ: صَدَقْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، أَرَدْتُ أَنْ أَعِظَكَ فَوَعَظْتَنِي.
بقلم الکاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي