ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "آفَةُ الْيَقيـنِ الشَّـكُ".
لا يُرزَق أحد أثمن وأفضل من اليقين، اليقين نعمة ليس بعدها نعمة، والمقام الأسمى الذي لا مقام بعده، من بلغه حاز كل الخير، ومَلَك كل أسباب الطمأنينة، واستقرَّت السعادة في قلبه، فيعيش الدنيا سعيداً ويُبعَثُ في الآخرة سعيداً، وهذا ما يفتقده الشخص الذي استبَدَّ به الشك وسيطرت عليه الأوهام والظنون، فهو مضطرب، قلق، متوتر، لا شيء يطمئن إليه، تهجم عليه الشُّبَهُ والهواجس واللوابس فتحيل حياته جحيماً لا يُطاق.
اليقين: جَزم القلب مع الاستناد إلى الدليل القطعي. مثل قولنا: الواحد أقل من الاثنين حكم يقيني، وشخص واحد لا يكون في مكانين في وقت واحد كذلك.
وقيل: هو طمأنينة القلب، واستقرار العلم فيه، وصدق الإيمان، واستقراره في القلب، بحيث لا يتطرق إليه شك.
واليقين، الذي هو أعلى درجات الإدراك، هو في نفسه ثلاثة أنواع: عِلْمُ اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. ويسمى الموت يقيناً، لأنه لا شَكَّ في وقوعه. فاليقين: من أعلى وآكَد مراتب العلم والتصديق. والموقن: هو العالم علماً لا يقبل الشك.
وقد جاء في الحديث عن رسول اللَّهِ (ص) أنه قال: "ألَا إنّ النّاسَ لَم يُؤتَوا في الدُّنيا شَيئاً خَيراً مِن اليَقينِ والعافِيَةِ، فاسألُوهُما اللَّهَ" وعنه (ص): "خَيرُ ما اُلقِيَ في القَلبِ اليَقينُ" وجاء عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "مَنْ أيقَنَ أفلَحَ" وأنه: "بِاليَقينِ تُدرَكُ الغايَةُ القُصوى" و: "اليَقينُ رَأسُ الدِّينِ" و: "نَومٌ على يَقينٍ خَيرٌ مِنْ صَلاةٍ في شَكٍّ".
لكنَّ اليقين رغم أنه يقين فقد يُصاب بآفة الشَّكِّ، والشكُّ مرض خطير، يتوقف معه المَرءُ في الأشياء اليقينية المُسَلَّمِ بها وعدم القطع بها وإدخال الشكوك إليها، وهو مَرَض قديم ولكنه في عصرنا الحاضر أكثر ظهوراً وحضوراً وتأثيراً، فقد دَبَّ إلى نفوس الكثير مِنّا، وتمَكَّن من قلوبهم، فأوقعهم في حيرة خطيرة من أمرهم، وجَلَب إليهم اضطراباً وقلقاً شديدين، ونحن نعلم أنَّ المناهج العلمية والتربوية المعاصرة في الكثير من المؤسسات التربوية والعلمية والجامعية تهدف إلى زرع الشَّك في النفوس، وتهتَمُّ بإثارة الشُّبُهات في العقول، تريد أن تُنشئ أجيالاً مُشَكِّكّة في دينها وقيمها، والشَّاكُّ يسهل الإمساك به، والاسثمار فيه.
إِنَّ للشَّكِّ عواقب خطيرة ومدمِّرة، إنه كالنار التي إن لم تُطفأ أحرقت كل شيء، وأتت على الأخضر واليابس، وإذا تحوَّلَ إلى شَكٍّ مَرَضي، أو ما يُطلَقُ عليه بالوسواس القهري فإنه لا يبقي ولا يذر، يُمَزِّق دين المَرءِ، ويهدُّ كيانه، ويُقَطِّع أوصال المجتمع ويقضي على علائق الأفراد فيما بينهم، فمن شخص يشك في والديه، وآخر يشك في أخيه، وثالث يشك في زوجه، ورابع يشك في صديقه، فماذا يبقى بعد ذلك؟
والشَّكُّ يُوَلِّدُ الشَّكَّ، والشَّكُّ على الشَّكِّ يُكَوِّنُ سلسلة لا متناهية من الشكوك، فيحول حياة الأفراد إلى جحيم قاتل، وينحدر بهم من حياة مطمئنة وادعة إلى دَرَكٍ من التعاسة والشقاء، ولذلك يسأل الإمام زين العابدين (ع) اللهَ في مناجاته فيقول: "وَاقْشَعْ عَنْ بَصائِرِنا سَحابَ الارْتِيابِ وَاكْشِفْ عَنْ قُلُوبِنا أَغْشِيَةَ المِرْيَةِ وَالحِجابِ وَأَزْهِقْ الباطِلَ عَنْ ضَمائِرِنا وَأَثْبِتِ الحَقَّ فِي سَرائِرِنا ، فَإنَّ الشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ لَواقِحُ الفِتَنِ وَمُكَدِّرَةٌ لِصَفْوِ المَنائِحِ وَالمِنَنِ".
ولك قارئي الكريم أن تتصوَّر حال الشَّكَّاك من الناس كيف يكون! تصوَّر زوجاً يَشُكُّ في زوجه له أنه يخونه، أو رجلاً يشك في خيانة شريكه السياسي أو التجاري! أو شخصاً يشك في دينه وعقيدته!.
لذلك وجدنا الإسلام يُظهِرُ حِرصاً شديداً على يقين المسلم، فيدعوه إلى أن تكون عقيدته قائمة على يقين لا يشوبه شك، بل أن يقيم حياته كلها على اليقين، ومنعاً لتحَكُّم الشك في حياته يقول له: لا يُنقَضُ اليقين بالشَّكِّ، ويقول له: كثير الشَّكِّ لا يعتني بشكه، ويقول له: إن الوسوسة من الشيطان، ويأمره بالتبّيُّن، وينهاه عن تصديق الوُشاة والكَذَبة، ويدرأ الحدود بالشبهات، كل ذلك دفعاً للشَّكِّ من أن يتسرب إليه، ثم يدعوه إلى اجتناب كل ما يثير الشُّبُهات والشُّكوك في نفسه، ومن هنا جاء تحريم حفظ كُتُب الضلال والانحراف، ومنه تحريم ارتياد الأماكن والمواقع الإليكترونية التي تثير الشُّبُهات في نفسه وتزلزل عقيدته، ويدعوه إلى المسارعة في معالجتها إن تسرَّبَت إليه، وأن ينطلق في معالجتها من اليقينيات الوجدانية المسلم بها، وعدم تركها في نفسه دون معالجة والبحث عن إجابة وافية شافية لها.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي