ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

مَنْ جَهِلَ النّاسَ اسْتَنامَ إِلَيْهِمْ

22:43 - September 15, 2025
رمز الخبر: 3501634
بيروت ـ إکنا: إن المسارعة إلى الطمأنينة والثقة، أو الإفراط فيها، رغم جهلنا بالناس ليست دليلاً على صفاء القلب ونقاء النفس، بل هي أحياناً علامة على الجهل وضَعف الخبرة.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ جَهِلَ النّاسَ اسْتَنامَ إِلَيْهِمْ".
 
هذه معادلة جارية في التعامل الإنساني، تدعونا من جهة إلى معرفة طبائع الناس وخلفياتهم العقائدية، والفكرية، وعاداتهم، وتقاليدهم، وأعرافهم، وأخلاقهم، ودوافعهم، وغاياتهم، وتحذِّرنا من التعامل الاعتباطي والارتجالي معهم، والمسارعة إلى محضهم الثقة قبل اختبارهم، فإن من لم يعرف طبائع الناس، ولم يدرك اختلاف عقولهم ونواياهم ودوافعهم، سيطمئن إليهم طمأنينة عمياء، وسيضع نفسه في مواضع الخطر دون أن يشعر.
 
من المؤكد قارئي الكريم، أن الجهل بالناس لا يُراد منه الجهل بأسمائهم، وأسماء عوائلهم، ومناطقهم وانتماءاتهم القومية، بل هو أعمق من ذلك بكثير، إذ يراد منه الجهل بطبائعهم، حيث لكل شخص طبيعته الخاصة، والجهل بصفاتهم الأخلاقية، حيث لكل واحد صفات يمتاز بها عن سواه، والجهل باتجاهاتهم العَقَدية والفكرية، والجهل بدوافعهم ونواياهم حيث لكل شخص دوافعه ونواياه الخاصة، فلا بد للإنسان من أن يكون عارفاً بالناس الذين يتعامل معهم اختيارياً أو اضطرارياً، كي لا يتورَّط بالثقة العمياء بهم، لأنه إن جهلهم فقد يثق بمن لا يوثَق به، ويُصَدِّقُ مَن لا يُصَدَّق، ويأتمن من لا يُؤتَمن، ويعتمد على من لا يُعتَمَد عليه.

وهذا معنى الاستنامة في قول الإمام (ع): "مَنْ جَهِلَ النّاسَ اسْتَنامَ إِلَيْهِمْ" فإن كلمة (استنام) في اللغة تأتي بمعنى الميل إلى السكون أو الراحة، و"استنام إلى شخص" تعني أن ركن إليه ووثِق به وصدَّقه واطمأن إليه دون حذر، وقد تحمل في بعض السياقات معنى الثقة المُفْرِطة أو الاستسلام، وهذا المعنى هو المراد في سياق ما تتحدث عنه المعادلة التي بين أيدينا، فمن جهِل الناس، استنام إليهم، أي اطمأن  إليهم واستسلم لهم كما يستسلم الطفل لحضنٍ قد يكون حانياً عليه رؤوفاً به، وقد يكون مخاتلاً، لأنه لا يرى إلا ظاهر الأمر، ولا يدرك ما يخفيه.
 
ومِمّا لا شك فيه أن دعوة الإمام أمير المؤمنين (ع) إلى المعرفة بالناس ليست دعوة إلى الشك المَرَضي، ولا إلى سوء الظن المستمر، بل هي دعوة إلى الوعي والبصيرة ومعرفة الزمان وأهله كي لا تلتبس علينا الأمور، والمواقف والخيارات، ولكي نعرف مع من نتعاون ونصادق ونتحالف، هي دعوة إلى أن نفهم أن البشر مختلفون في طبائعهم وصفاتهم الأخلاقية، وأنهم ليسوا سواء، وأن الثقة بأحد لا يعني أن نعممها لنثق بجميع الناس، كما أن عدم الثقة بأحدهم لا يعني ألّا نثق بكل الناس، بل نمنح ثقتنا لمن يستحق، ولا نعرف أنه مستحق لها إلا بعد الاختبار والامتحان.
 
هذه المعادلة يبحثها علماء النفس ولكن تحت عنوان آخر، حيث يكشفون عن قانون في علم النفس الاجتماعي مفاده: أن إدراك الفروق الفردية بين الناس، ومعرفة أنماط سلوكهم، يتيح لنا بناء استجابات مناسبة، ويمنعنا من التورُّط في مواقف الندم.
 
فالمسارعة إلى الطمأنينة والثقة، أو الإفراط فيها، رغم جهلنا بالناس ليست دليلاً على صفاء القلب ونقاء النفس، بل هي أحياناً علامة على الجهل وضَعف الخبرة، فما أكثر ما نستعجل الطمأنينة بالأشخاص ثم تكشف لنا التجربة عدم استحقاقهم لها، وقد نكتشف ذلك بعد أثمان باهظة دفعناها من أموالنا، أو راحتنا. 
 
لذلك فإن من الضروري جداً لكل شخص منا أن يقرأ الناس جيداً، أو يحاول ذلك على الأقل، من خلال قراءة وملاحظة أفعالهم أكثر من أقوالهم، وأن يفصل بين عواطفه وعقله، لأن العواطف والمشاعر غالباً ما تسلِب الإنسان القدرة على التقييم، وأن يتدَرّج في منح الثقة، لا أن يمنحها دفعة واحدة ومن أول تعامل، وأن يحتفظ بمسافة حتى مع يثق به، ليكون قادراً على الانسحاب إذا ظهر له أن باطنه يختلف عن ظاهره. 

بقلم الباحث اللبناني في الدراسات الدينية السيد بلال وهبي
captcha