
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ تَأَيَّدَ فِي الأُمُورِ ظَفِرَ بِبُغْيَـتِهِ".
بعضُ الأمورِ قد تنجحُ فيها بمفردك، ولا سيّما إذا كانت أموراً شخصيةً بحتةً يمكنك أن تُنجزها وحدك، كأن تكون رسّاماً، فأنت قادرٌ على أن تُبدع ذاتياً، أو تكون مزارعاً، فيمكنك أن تزرع شجيراتك، وتواظب على سقيها ورعايتها حتى تنمو وتزهو وتُثمِر بما يُسِرّ العين ويُفرِح القلب.
غير أنّ هناك كثيراً من الأمور، حتى الشخصيةَ منها، لا يمكنك أن تُنجزها بمفردك، ناهيك عن الأمور العامة التي تتشارك فيها مع غيرك، فأنت محتاجٌ في إنجازها إلى سواك، ولا بُدّ أن يُؤازِرك آخرون عليها. فإذا كنت قائداً، أو مَلِكاً، أو حاكماً، أو رئيسَ مؤسسةٍ، فلا يمكنك أن تُنجز الأمور وتُحقّق الأهداف وحدك، بل تحتاج إلى الأعوان والأنصار، وجيشٍ من العاملين والموظفين، ناهيك عن حاجتك إلى تأييد الله ورعايته وتسديده وتوفيقه.
تلك هي المعادلة التي يكشف عنها الإمامُ أميرُ المؤمنين (ع): "مَن تأيَّد في الأمورِ ظفرَ ببُغيته"، وهي تُقدِّم لنا قانوناً ربانياً في تحقيق الأهداف وبلوغ الغايات والنجاح فيها. فإنّ الإنسانَ مهما بلغ من القدرة والقوة، لا يمكنه أن يُنجز معظم الأمور بمفرده، بل يحتاج فيها إلى الداعم والمُسانِد والنصير، فضلاً عن تأييد الله وتسديده ومدده.
كلُّ القادةِ التاريخيين والمعاصرين لم يتمكنوا من إنجاز شيءٍ لولا وجودُ المؤيدين والداعمين والأنصار. وهناك كثيرٌ من القادة أخفقوا في تحقيق أهدافهم لا لعجزٍ فيهم، بل لافتقادهم الأنصارَ والأعوان. يستوي في ذلك الأنبياءُ والرُّسلُ والقادةُ العاديون؛ فالحاجةُ إلى الأعوان والمؤيدين لا يُستغنى عنها بحالٍ من الأحوال، لا يُستغنى عنها بحقانية المبدأ والغاية، ولا يُستغنى عنها بصلاح القائد وتقواه؛ فحتى لو كان القائدُ نبيّاً من الأنبياء، سيُخفق في بلوغ غاياته إذا لم يتوفر له أنصارٌ أوفياءُ مخلصون.
إنّ نبيَّ الله عيسى بن مريم (ع) قال: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿آل عمران: 52﴾ فلم يكن يسأل عن عجزٍ أو ضعفٍ -كيف وهو المؤيَّدُ بالمعجزات من الله تعالى- ولو شاء الله أن يُجبِرَ الناسَ جميعاً على الإيمان بدعوته لفعل، ولكنّه تعالى شاء أن يكون الإيمانُ اختيارياً إرادياً لا جبرياً، وشاء لحركة التغيير في الحياة الاجتماعية -كما في الحياة الطبيعية- أن تمضي وفق قوانين صارمة لا تتخلّف ولا تتبدّل، وشاء للناس أن يُناصروا أنفسهم وقادتهم التغييريين بالكلمة والموقف، وبالمال والأيدي، كي يُغيّروا ما ينبغي تغييره.
فحتى الرسالاتُ السماوية -رسالاتُ الله- على عُلُوّ مقامها وضرورتها للبشرية، لا تتحقّق إلا بأنصارٍ يدافعون عنها، ويدعون إليها، ويُجسّدونها في الواقع.
فكما يحتاج الأنبياءُ -وهم المؤيَّدون بالوحي والمعجزات- إلى أنصارٍ يؤيدونهم ويُساندونهم، كذلك يحتاج القادةُ والرؤساءُ والمديرون، وحتى ربُّ الأسرة، إلى أعوانٍ يُعينونهم، كما يحتاجون إلى تأييد الله وعونه وتسديده.
على أنَّ التأييد الإلهي لا ينفصل أبداً عن التأييد البشري من الأعوان والأنصار؛ فإنّ الله تعالى أيّد الأنبياء بالمعجزات إظهاراً لحُجّتهم، لكنهم في حركتهم التغييرية الاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية احتاجوا إلى الأعوان، لأنّ التغيير هنا يجب أن يكون ذاتياً، يجب أن يقوم به الأفراد أنفسُهم، والله تعالى يُبارك جهودَهم لكنه لا يعملُ بدلاً عنهم، إذ يقول سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴿الرعد: 11﴾.
ولهذا قال الإمامُ أميرُ المؤمنين (ع): "مَن تأيَّدَ في الأمورِ ظفرَ ببُغيته" ليُذكّرنا أن اليدَ الواحدة لا تبني، ولا تُنجز، ولا تنتصر، وأن اعتدادَ القائد أو المسؤول أو المدير بذكائه وقوته وقدراته الشخصية، واكتفاءَه بها عن سواها، وعدمَ استفادته من قدرات الآخرين وطاقاتهم ومؤهلاتهم، فذلك وهمٌ، بل جهلٌ. فالنجاح لا يمكنك أن تُحقّقه وحدك مهما أوتيت من قدراتٍ وإمكانات، فأنت محتاجٌ في ذلك إلى من يُعينك عليه.
النجاحُ القياديُّ الحقيقي هو أن تجمع قدراتِ الآخرين إلى قدراتك، وأفكارَهم إلى فكرك؛ النجاحُ الحقيقي أن تُشركهم في عقولهم وخبراتهم، وتستفيد من تجاربهم، وأن تضمَّ أيديهم إلى يدك، وعقولهم إلى عقلك، وهممهم إلى همتك.
فالجهدُ الفرديُّ مهما كان عظيماً لا يُثمِر، وإن أثمر فسرعان ما تذهبُ ثِمارُه، والنجاحُ لا يتأتّى إلا من منظومةٍ متكاملةٍ من الأفراد والقدرات والأنظمة التي تتعاون جميعاً على تحقيق ما تصبو إليه.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي