
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي
هذه حقيقة لا تُنكَر، "مَنْ جَهِلَ قَلَّ اعْتِبارُهُ" وقلَّت مكانته في أعين الناس، وأصبح أضعف تأثيرًا، وقَلَّ الاعتماد عليه وعلى رأيه، فالاعتبار هنا هو المنزلة المعنوية والاحترام المبنيّ على المعرفة والحكمة لا الكرامة الإنسانية الثابتة.
لكن السؤال المطروح هو: ما المراد من الجهل هنا؟ هل هو الجهل الذي يقابل العلم، أم الجهل الذي يقابل العقل؟
في اللغة العربية وفي النصوص الحديثية الواردة عن النبي والأئمة الأطهار (عليهم السلام) يأتي الجهل بمعنيَيَن رئيسيين:
الجهل الذي هو نقيض العلم، يعني عدم المعرفة أي خُلُوّ الذهن من المعلومات.
الجهل الذي هو نقيض العقل والحكمة (أي الطيش) وذلك بوضع الشيء في غير موضعه، واتباع الهوى والتصرف بحماقة وسفاهة.
وهذا ما ورد عن الإمام الصادق (ع) فيما رواه سَمَاعَة بنِ مِهران عنه قال: كنت عند أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، وعنده عِدَّة من مواليه، فجرى ذكر العقل والجهل، فقال عليه السلام: "اِعْرِفُوا اَلْعَقْلَ وَجُنْدَهُ، وَاعْرِفُوا اَلْجَهْلَ وَجُنْدَهُ تَهْتَدُوا..." وذكر حديثًا طويلًا بَيَّن فيه جنود العقل وجنود الجهل، فجعل الجهل مقابل العقل.
بعد اتضاح معنَيي الجهل، يتضح لنا أن المعنى الثاني من معاني الجهل هو المراد في قول الإمام (ع): "مَنْ جَهِلَ قَلَّ اعْتِبارُهُ" ويتأكد هذا المعنى من خلال الواقع نفسه، فالمقابل الحقيقي للجهل ليس كثرة المعلومات، بل يقابله العقل والحكمة والتصرف الرشيد، لماذا؟ لأن الإنسان قد يحمل شهادات علمية كبرى (أي تكون لديه معلومات كثيرة)، لكنه يتصرّف تصرفات رَعناء، ويمارس أفعالاً طائشة، ويتخذ قرارات سفيهة، ويكرر نفس أخطائه الحياتية ولا يتعظ بغيره، وليس لديه اعتبار مِمّا يحدث له أو لغيره.
إذن الجهل هنا هو السَّفَه وانعدام الرشد والحكمة، وطاعة الهوى، والتأثُّر بالمزاج في اللحظة الراهنة، وتغليبه على التدبُّر في عواقب الأمور، الجهل هنا هو قصور النظر العقلي، والتسرُّع، والسَّفاهة، والطَّيش، وانعدام الحكمة.
أما لماذا يَقِلُّ اعتباره، فواضح للقارئ الكريم كما أعتقد، فالجاهل تكون منه أفعال وسلوكيات تُسقِطه من أعين الناس، حيث يستعجل في قراراته، ويتبنى خيارات دون أن يفكر في عواقبها، ويرفض ما فيه مصلحته، ويقبل ما فيه مفسدة له، يقطع من يجب أن يصِلَهُ، ويَصِلُ من يجب أن يقطعه، لا يحفظ عهدًا، ولا سِرًا، ويسهُل عليه النيل من السمعة والكرامة لأنه لا يقدِّر مخاطر ذلك، فمن الطبيعي أن يقِلّ اعتباره في الناس.
وإذا كان من نصيحة أسديها لنفسي وللقارئ الكريم على ضوء ما سلف فهي: أن نراقب أنفسنا، ونحاسبها على كل تقصير أو خطأ أو حتى هفوة تكون منها، وأن نسألها عن السبب الذي أدى بنا إلى الوقوع في الخطأ، أو سلوكنا بطريقة سلبية، أو تسرُّعنا في اتخاذ قرار، وأن نعوِّدها على التدبُّر في العواقب قبل أن نخطو أي خُطوة، ونتحلى بالتأنّي والرَّوِيَّة في اتخاذ القرارات، واختيار ما يجب اختياره، ومن الضروري أن نصاحب العلماء والحكماء، والصالحين من عباد الله لنستفيد من علمهم وعقلهم وسيرتهم.