
كما تُعرَفُ الأمور بأضدادها، كذلك تُعرَفُ بالمشابهة والمُشاكلة، وأوضح تعبير عن ذلك ما قيل: قُلْ لي مَنْ تعاشر أَقُلْ لك مَنْ أنت. فلولا أنه يشاكله ويشبهه وينسجم معه لما عاشره وصادقه، كذلك الحال في دخول الشخص مداخل السوء، كما لو كان على علاقة قوية بالفاسدين أو متهمين بالفساد، فحتى لو لم يكن متورطًا معهم، لكن دخوله في تلك العلاقة يجعله موضع شُبهة بلا شك، أو شاب يرافق رفقة سيِّئة فسُرعان ما تصبح سُمعته امتدادًا لسمعتهم، أو تاجر يتعامل مع شركات مشبوهة، أو معروفة بالغش، فلا بد أن يتحمَّل تلقائيًا ظنون الناس السيِّئة عنه، أو شخص يقوم بإيصال زميلته في العمل، أو جارته بالسيارة لوحدهما في وقت متأخِّر، أو شخص يتابع حسابات مشبوهة، أو يضع إعجابات على صور غير لائقة، أو شخص مؤمن يرتاد أماكن لا تليق بمثله، والأمثلة لهذا كثيرة، والمشترك بينها هو الغموض الذي يدعو الناس إلى إساءة الظن بهم، واتهامهم بما لا يرضون، وإن كانت إساءة الظن غير جائزة، والاتهام بلا دليل حرام، ولكن هذا شيء، وطبع الناس في التعامل مع المواقف الغامضة التي تحتمل أحكامًا مختلفة شيء آخر.
إن العلاقة الاجتماعية تُبني على الثقة، والثقة تُبنى على السلوك الظاهر، ولهذا نجد الشريعة تميِّز بين الشخص المتصف بالعدالة والشخص غير المتصف بها، وتقول: إن العدالة هي "حُسْنُ الظاهر" لأن الناس لا يعلمون الغيب، بل يحكمون بالظواهر، فمن كان ظاهره حَسَنًا منحوه صفة العدالة، ومن كان ظاهره سيئًا نزعوا عنه تلك الصفة، مِمّا يعني أن الإنسان مسؤول عن الصورة التي يرسمها لنفسه في عيون الآخرين، فمن أراد أن يحفظ سمعته طيبة فعليه أن يتجنَّب كل مداخل ومواطن السوء.
فهذه الحتمية تدعونا إلى اعتماد مبدأ الوقاية من التُّهمَة، فكما يجب على الإنسان أن يعتمد مبدأ الوقاية من الأوبئة والجراثيم درئًا للأمراض عن بدنه، كذلك عليه أن يعتمد مبدأ الوقاية لسمعته ومكانته درئا للتهمة عنه، لأن الذي يضع نفسه في أماكن الشبهات (سواء كانت أماكن مادية، أو مجالس، أو مواقف)، فليس له أن يلوم الناس إذا أساؤوا الظن به، حتى وإن كان بريئاً.
إن مبدأ الوقاية هذا يحمي سمعة الإنسان ومكانته الاجتماعية، وهما رأسماله الأهم، لأن الناس إنما يثقون به بقدر نقاء صورته وصفاء سمعته، فهو مطالَبٌ أن يتجّنَّب مداخل ومواطن السوء كي يدفع عن الناس سوء الظن، والغيبة، والنميمة، وهذه من أهم أسباب حدوث المشاكل والخصومات الاجتماعية، ويترتب عليها الكثير من الهرج والمرج في المجتمع.
نستنتج مِمّا سبق التالي:
أولاً: إن الشخص مسؤول عن صورته التي يراها الناس، فلا يكفيه أن يقول: أنا لا أفعل الحرام والمنكر، ولا يكفيه أن يكون واثقًا من نفسه فيقول: لا يهمُّني رأي الناس وكلامهم، بل لا بد أن يتجنَّب مواضع الشبهة لأن الحفاظ على السمعة واجب أخلاقي وشرعي.
ثانياً: كما أن الوقاية من الأمراض خير من قنطار علاج كما قيل، فكذلك وقاية الصورة والسمعة أسهل بكثير من التبرير، إن تجنُّب مداخل السوء أسهل ألف مرة من الدفاع عن البراءة بعد وقوع التهمة.
ثالثاً: إذا اضطرَّتك الظروف للتواجد في موقف قد يُفهم بشكل خاطئ، ويكون مدعاة لسوء الظن بك، فبادر فورًا إلى توضيح الموقف لمن رآك قبل أن يرسم خياله صورة قاتمة لك.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي