
سُنَّة أخرى من سُنَن الله تعالى الثابتة المطردة، الجارية عندما تتكامل أسبابها وشروطها: أن من ظلم الناس وتجاوز حقوقهم، وبغى عليهم، فمصيره الهلاك بجوره، أي إن جوره الذي يتوهَّم أنه يجلب إليه ما يبتغيه يرتد عليه هلاكاً ودماراً، فالجَور كالسهم يطلقه الجائر، فيعود ليصيب هدفه الأصلي وهو ذات الجائر ومستقبله في الدنيا والآخرة فيُهلكه في الدارين معًا، يُهلك ذكره وسمعته وصيته، جالباً إليه مقت الناس وكرههم، ويُهلك سلطانه وجاهه، ويذهِب النِّعَم من بين يديه، ويُهلِكه نفسياً بزوال طمأنينته وراحته النفسية، والعيش في خوف دائم من انتقام المظلومين، وعقاب الله له، وهو عقاب يأتيه لا محالة في الدنيا كما في الآخرة، التي لا يفلت منها أحد.
ما الجَورُ؟
ذكرت معاجم اللغة العربية معاني عديدة للجور: منها: الميل عن القصد والاعتدال، يُقال: جار عن الطريق، أي مال وحاد عنه. ومنها: الظلم وتجاوز الحد: وهو المعنى الأكثر استخداماً في السياق الأخلاقي والشرعي. ومنها: الشَّرُّ والفساد: ومنه جائر أي ظالم أو فاسد.
والجور قارئي الكريم، كالظلم، وكأيّ صفة قبيحة يتصف بها الإنسان لا تأتي من فراغ، وإنما تنشأ من أسباب يذكرها علماء الأخلاق كمقدمة ضرورية لمعرفة العلاج لهذه الصفة الرذيلة، ويمكن تلخيص تلك الأسباب بالتالي: ضعف الإنسان، وجهله، وغياب الوازع الديني والأخلاقي، وسوء التربية، وحب التسلُّط، وحب الرئاسة، والطمع والجشع، والأنانية، والكبر، والغرور، والحسد، والحِقد، واتباع الهوى، والخضوع للشهوات، فإن هذه الأمور مجتمعة أو متفرقة تحمل الإنسان على الجور، وتدفعه إلى الرغبة في التحكُّم بالآخرين، وامتلاك ما ليس له، وإلحاق الأذى بهم، أو حرمانهم من حقوقهم، وتقديم رغباته الشخصية على كل حق، وشعوره بأن مكانته تخوِّله تجاوز حقوق الآخرين.
والجائر كما الظالم والمعتدي والباغي والماكر قد يظن أنه يسلم من تبعات جوره، وأنه فوق المحاسبة والمؤاخذة، وأنه ما دام قوياً فلن ينال أحد منه، ويغفل عن أنَّ جوره سيرتد عليه، وأن سهمه سيقتله.
إن للجور آثارًا خطيرة، وتداعيات مدمِّرة على الفرد وعلى المجتمع، وأول تلك التداعيات أن يفقد الجائر راحة البال –وراحة البال منتهى غايات الإنسان- فتراه يعيش في قلق دائم من ردة فعل المظلومين، أو من العقاب الإلهي الذي لا يعرف متى يبغته. ناهيك عن العزلة الاجتماعية، ومقت الناس له، وحقدهم عليه، وصولاً إلى زوال نعمته وملكه وسلطانه، وانتهاءً بالأثر الأهم والأعظم وهو الشقاء في الآخرة، لأن الجور من كبائر الذنوب التي توجب سوء العاقبة والعقاب في الآخرة.
هذا على المستوى الفردي، أما التداعيات الاجتماعية للجور، فلا تقل خطورة بل تزيد، فبسبب الجور ينتشر الفساد في المجتمع، وتتزعزع ثقة الناس ببعضهم، وثقتهم بالدولة والقانون، مما يفتح الباب واسعًا للفوضى، والسلب والنهب، وفرض الإتاوات، وما ينتج عن ذلك كله من انعدام الأمن والطمأنينة، وتدهور العلاقات الاجتماعية، وتوجُسِّ الناس من بعضهم.
إن المجتمعات التي يسودها الجَور تضمر قوتها، وتصاب بالشَّلل كما تثبت الدراسات، والشلل هنا لا يقتصر على الاقتصاد، بل شلل فكري، وثقافي، وعلمي، شلل على كافة الصُّعُد، وعند ذلك تُنزَع البركة من المجتمع، وهذا ما نراه حقيقة ماثلة أمامنا في كل المجتمعات الجائرة.
فالجور يهلك صاحبه، ويهلك مجتمعه، ولذلك حرَّمه الله، ودعا الناس إلى مواجهة الجائرين والظالمين والباغين حفظًا لمصالحهم، وذودًا للضَّعف والشَّلَل عن مجتمعهم، وإلا كان عليهم أن يتحمَّلوا مسؤولية سكوتهم، وهذا ما جاء في الحديث الذي رواه الإمام الحسين (ع) عن جده المصطفى رسول الله (ص) حيث قال: "أيُّها النّاسُ: إنَّ رسولَ اللهِ (صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّم) قال: مَن رَأى سُلطانًا جائرًا مُستَحِلًّا لِحَرامِ اللهِ، ناكِثًا عَهدَه، مُخالِفًا لِسُنَّةِ رسولِ اللهِ (ص)، يَعمَلُ في عِبادِ اللهِ بالإثمِ والعُدوانِ، فَلَمْ يُغَيِّرْ عليه بفِعلٍ ولا قَولٍ، كانَ حَقًّا على اللهِ أنْ يُدخِلَهُ مُدخَلَهُ..."
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي