ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "بِرُكُوبِ الْأَهْوالِ تُكْسَبُ الْأَمْوالُ".
هذه معادلة يكشف عنها أمير المؤمنين (ع) وتشهد لها التجربة الإنسانية الطويلة، إن كسب المال لا يأتي من طريق سهل، فهو محفوف بالمخاطر والأهوال، وهي مخاطر وأهوال متنوعة، وجميعها تستلزم الدِّقة والحذر، والإقدام والجرأة، والأمل والثقة، والتوكُّلَ وحُسنَ الظن بالله، واقتناص الفرص، والصبر والثبات، والاستقامة ومواصلة العمل، والقدرة على اتخاذ القرارات، واستيعاب الصدمات، وتَحَمُّل الخسارات.
انظر قارئي الكريم إلى الكَسَبَة الذين يسعون وراء أرزاقهم فلن تجدهم إلا مُخاطرين إما بأموالٍ يستثمرونها ولا يدرون هل تنجح أعمالهم أم تفشل، هل تَصدُقُ توقعاتهم أم تكذب، هل يفي لهم مَن وعدهم وتعَهَّد لهم أم ينقض وينكث، أو يخاطرون بأنفسهم، فمن متكسب يطلب رزقه في أعالي البحار، ومن يطلبه في الغوص إلى أعماقها، ومن يطلبه في أعالي الجبال، أو في باطن الأرض، أو في بردٍ قارس، أو في حرٍّ لاهِبٍ، أو في أماكن الحروب والصراعات، أو يواجه لصوصاً وقَتَلَة، أو مافيات متوحشة، أو يعمل في مجالات خطِرة، وسوى ذلك من الأعمال والمخاطر، والشخص يواجهها جميعا ليتكَسَّبَ رزقه ويحصل به على حاجاته المختلفة. فهذه جميعاً أهوالٌ يصعُب على كثيرين مواجهتها، فمن لم يُدَرب نفسه على ذلك كان الفشل مصيره المحتوم.
فمن يتوهَّم أن كَسْبَ المال يأتي بالأماني فإن الأماني بضاعة الحَمقى فقط، إنما هو الجِدُّ والتَّعَب والسَّعي والمشي في مناكب الأرض، ومواجهة ألوانٍ من المصاعب والمتاعب. فمن لا يملك روحاً وثَّابة، ونفساً مستعدَّة للمواجهة، وجرأة على الدخول في الأهوال فلن يكسب إلا القليل، وقد لا يحصل على شيء.
ولَنِعْمَ ما قِيلَ: النعيم لا يُدرَك بالنعيم، ولَذَّة الراحة لا تنال بالراحة، فالجَنَّة حُفَّت بالمكاره، ولا يُنال الرزق حتى يسيل العرق، ويعظم الجهد والنصب والأرق. ومن رام اللآلئ زج بنفسه البحر، فبقَدر العَنا تُنالُ المُنى، فلن يدرك البَطَّالُ منازل الأبطال، ولا يدرك السِّيادَةَ مَنْ لَزِمَ الوِسادة، ومن لم يركب الأهوال لم ينَلْ ما رَغِب، ومن لم يتحمَّل النَّصَبَ والتَّعَب لم يكسب.
"بِرُكُوبِ الْأَهْوالِ تُكْسَبُ الْأَمْوالُ" هذه دعوة علوية شريفة لكل راغب بالكسب الحلال أن يمتطي ظهر الأهوال، أن يجعل منها وسيلة لتحقيق ما يرغب في تحقيقه من أهداف، أن يكون صاحب روح وَثَّابة لا يهاب المخاطرة المعقولة، ولا يخاف من المجازفة المحسوبة، وأن يتحلّى بالشجاعة والجرأة، والإقدام والمبادرة، وأَلّا يهاب الخسارة، فمن لا يخسر لا يربح، ومن لا يجازف لا يحقق ما يصبو إليه، ومن يهاب أمراً يبتلى بأعظم منه، يقول أمير المؤمنين (ع): "إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ، فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ".
فكُنْ شجاعاً مِقداماً، واثقاً من نفسك، وعلى استعداد للمجازفة المحسوبة، واتخاذ القرارات الملائمة، والتكيُّفِ مع الخيارات البديلة فيما لو سارت الأمور بطريقة غير محسوبة، وتذكر أن الأخطار والأهوال ضرورية للابتكار والإبداع. فإن الذين يتحلَّونَ بالشجاعة الكافية لمواجهة المخاطر وركوب الأهوال هم الذين يحظون بالتقدير والاحترام، وإيّاك والتَّرَدُّد والخوف وتَهَيُّب المخاطر، ولا تسمح لاحتمالات الفشل أن تثنيك عَمّا يجب أن تقوم به، فإنك إن فعلت ذلك تسببت بالهزيمة لنفسك، وقعدت عن العمل والتكَسُّب، وصَنَعت من نفسك شخصاً اتكالياً يتكل على غيره، وفي هذا من الإحباط ما فيه. والإحباط يجعل منك عالة على من حولك وعلى المجتمع برمته.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: