ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

مَنْ كَثُرَ نِفاقُهُ لَمْ يُعْرَفْ وِفاقُهُ

0:10 - August 13, 2025
رمز الخبر: 3501287
بيروت ـ إکنا: إن النفاق ليس خللاً سلوكياً وحسب، بل هو مرض أخلاقي خطير، وهو أخطر من الكذب، وأشد من الخيانة، لأنه يجمع بين الوجهين، ففيه كذب وخيانة في نفس الوقت، وقد كان النفاق ولا يزال من أعظم الآفات الأخلاقية التي تهدِّد تماسك المجتمع وسلامته.

وروِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ كَثُرَ نِفاقُهُ لَمْ يُعْرَفْ وِفاقُهُ".
 
تحذّر هذه الجوهرة العلوية الكريمة من تبعات النفاق ومخاطره، التي لا تنعكس على مكانة الفرد في المجتمع وحسب، بل تنعكس على علاقات الاجتماعية لتجعلها محكومة بالقلق، قائمة على الشك والارتياب. 
 
النفاق، هذه الظاهرة التي واكبت الإنسانية منذ فجرها الأول، كما واكبها الصدق والوضوح والصراحة، فقد كان المجتمع الإنساني ولم يزل يحفل بنماذج من المنافقين ونماذج من الصادقين، فمن الناس من يوافق ظاهرُه باطنَه، لا يُخفي أمراً ويُظهر نقيضه، ومنهم من يناقض ظاهرُه باطنَه، فيُظهر أمراً ويُخفي نقيضه، يجعل لسانه قناعاً يستر قُبح جَنانه، يُبدِّل لونه تبعاً لما تقتضيه مصلحته كما يُبدل ثوبه، كما تبدِّل الحِرباء لَونها تبعاً لِلَون الغِصن الذي تقف عليه، لتحمي نفسها من المفترسين.

النفاق هو إظهار الشخص خلاف ما يُبطِنه، وهو نوعان:

النوع الأول: النفاق العقائدي: وهو أن يُظهر الشخص للناس اعتقاداً غير العقيدة التي يؤمن بها، كأن يُظهِر إيمانه بالإسلام، ويمارس عباداته وشعائره أمامهم، وهو في الحقيقة غير مؤمن بل يعتقد بعقيدة أخرى، أو يكون كافراً في واقع الحال، وهذا النوع من النفاق يُخرِجه من الإسلام، ويُعَدُّ من أعظم صور الخِداع والكذب.

النوع الثاني: النفاق العملي وهو أن يتصف الشخص بصفات المنافقين من كذب، وخيانة، ونقض للعهود، وخداع، ومكر، وكيد، فيظهر للناس الوجه الحسَن وهو يخفي حقيقته القبيحة، أو يُظهر صداقته لهم وهو لهم عدو، أو يُظهر محبته لهم وهو حاقد عليهم واقعاً، أو يُظهر حرصه عليهم وهو يريد بهم الشَّرَّ، وهذا قد يكون من شخص معتقد حقيقة بالإسلام، ولكنه إسلام نظري وحسب، ولم يتحوَّل إلى إيمان عملي يصوغ علاقاته وسلوكياته. 
 
والنفاق ليس خللاً سلوكياً وحسب، بل هو مرض أخلاقي خطير، وهو أخطر من الكذب، وأشد من الخيانة، لأنه يجمع بين الوجهين، ففيه كذب وخيانة في نفس الوقت، وقد كان النفاق ولا يزال من أعظم الآفات الأخلاقية التي تهدِّد تماسك المجتمع وسلامته، لذلك حذَّر القرآن الكريم من المنافقين بشدة، وفضح منطقهم وأساليبهم، وردَّ حججهم ومعاذيرهم، وذكر كيفية التعامل معهم، في مواضع عديدة من سوره الكريمة، لا سيما سورتا الأنفال والتوبة، التي تُسمّى سورة (الفاضحة) وخصَّه بسورة خاصّة وهي سورة المنافقون، التي أكَّدت الروايات الشريفة استحباب قراءتها في الركعة الثانية من صلاة الجمعة، وأعلن أن المنافقين في الدَّرك الأسفل من النار، وهو أقسى ما وُصف به أحد في كتاب الله، ويكفينا أن نقرأ قول الله تعالى عنهم: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴿1﴾ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿2﴾ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴿3﴾ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴿المنافقون:4﴾.
 
إن المجتمع الذي ينتشر فيه النفاق تنعدم منه الثقة، ويفشو فيه الغدر، وتنهار فيه القِيَم، فالمنافق لا يُمكن الوثوق به في قول ولا فعل، ولذلك قال رسول الله (ص): "آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإِذا اؤْتُمِنَ خَانَ"، وما هذه الصفات إلا سُموم تُهلِك صاحبها، وتُهلِك المجتمع.
 
فكم من منافق استخدم الدين وسيلة لتحقيق مصالحه، وكم من منافق تسلق على ظهور الناس بشعارات زائفة! اتخذ الدين قناعاً، والصدق شعاراً، لكنه في الحقيقة عدو متربص، ولهذا كان المنافقون أشد خطراً من الكافرين، لأن عداوتهم خَفِيَّة، ومكرهم مستتر، كما قال تعالى: "هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ" وما يُؤسَف له أن المجتمع الإنساني اليوم بات يئنُّ تحت وطأة أشكال متقدمة من النفاق الاجتماعي، والسياسي، والإعلامي.
وعليه: فالمنافق لا ينبغي أن يُصَدَّق بأي حال، حتى ولو كان صادقاً في بعض مواقفه، لأنه لا يُعلَم متى يكون صادقاً ومتى يكون منافقاً.

بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي
 
captcha