
تدعونا هذه الجوهرة الكريمة إلى التأمُّل العميق في العلاقة بين ما يسكن القلب، وما يفيض منه على الجوارح، فالإنسان كائن ذو وجهين: ظاهر يراه الناس، وباطن لا يعلمه إلا الله تعالى، وهذا التكوين الثنائي يُلقي على النفس البشرية مسؤولية كبرى في أن تكون صادقة في علانيتها وسريرتها، منسجم ظاهرها مع باطنها، في هذا السياق يأتي قول الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنْ خَشَعَ قَلْبُهُ خَشَعَتْ جَوارِحُهُ"
الخشوع كما جاء في لسان العرب لابن منظور هو: "التَّضَاؤُلُ، والتَّطَامُنُ، والتَّوَاضُعُ. يُقال: خَشَعَ صَوْتُه وخَشَعَ طَرْفُه، وخَشَعَتِ الأَرْضُ: لانَتْ وسَكَنَتْ، وخَشَعَ الرَّجُلُ في صَلاتِهِ: خَضَعَ وأَنْصَتَ."
فالخشوع هو التذلُّل والسكون والانخفاض عن عظمةٍ أو هيبة، ويشمل الصوت والبصر والجسد والباطن، وهو أعم من الخضوع، إذ يشير إلى حالٍ قلبيٍّ يتبعه أثرٌ في المظهر والحركة، وليس مجرد انكسار في الهيئة أو خفض البصر، بل هو حالة داخلية تنبع من وعيٍ عميق بجلال الله، وعظمة الوقوف بين يديه، فإذا بلغ القلب هذه الدرجة من الإدراك، تجلَّى ذلك على الجوارح، فلا يمكن لليد أن تمتد إلى الحرام، ولا للسان أن يفحش، ولا للعين أن تَتَلَصَّص، لأن القلب مملوء بخشية الله.
يؤكِّد القرآن الكريم على ضرورة أن يخشع القلب باعتباره أهم وأعلى أنواع الخشوع، وهو خشوع باطني، وأنه الاستجابة الروحية العميقة لذكر الله وتدبّر آياته، يقول تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿الحديد: 16﴾. أي: ألم يحن الأوان أن ترقّ وتلين وتخضع نفوسهم لذكره ووحيه، ولا تكون قاسية غافلة.
ويتحدّث عن خشوع الجوارح في الصلاة، وهو الخشوع الحِسِّي الظاهر، لكنه نابع من القلب، فيقول: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿1﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿المؤمنون:2﴾ أي: ساكنون مطمئنون، لا يلتفتون بقلوبهم ولا بجوارحهم عن ربهم، فالخشوع هنا ليس شكلاً بل سمة إيمانية قلبية تتجلّى على الجوارح.
ويتحدَّث عن خشوع المخلوقات من بشر وحيوان وحتى الجمادات أمام عظمة الله تعالى وتجلِّيات قدرته المطلقة، فيقول: وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ﴿طه: 108﴾ أي: سكنت وانخفضت الأصوات رهبةً من جلاله يوم القيامة، ويقول تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴿الحشر: 21﴾.
فالقرآن يستعمل "الخشوع" للدلالة على حالٍ باطني من التذلل والخضوع لله تعالى، تظهر آثاره في الجوارح، وتكون ثمرةً للإيمان والتقوى.
ولقد جسّد أئمة أهل البيت (ع) هذا المعنى قولاً وفعلاً، فقد رُوي عن الإمام زين العابدين (ع) أنه كان إذا قام للصلاة، اصفرّ لونه، وارتعدت فرائصه، فقيل له في ذلك، فقال: "وَيْحَكُمْ، أَتَدْرُوْنَ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ أَقُوْمُ"؟!. فهذا الاضطراب ليس تصنُّعاً، بل أثر من آثار الخشوع القلبي الحقيقي، الذي يجعل الجسد يرتجف هيبةً بين يدي الله.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "إِذَا اسْتَقَرَّتْ المَعْرِفَةُ في الْقَلْبِ ظَهَرَتْ عَلَى الجَوارِحِ"، والمعرفة التي يقصدها هنا ليست معرفة ذهنية وحسب، بل حالاً قلبياً، ينعكس تلقائياً على جوارح الإنسان وسلوكه.
إن قول الإمام أمير المؤمنين (ع): "مَنْ خَشَعَ قَلْبُهُ خَشَعَتْ جَوارِحُهُ" يشير إلى وحدة النفس الإنسانية، إذ لا يمكن أن يدّعي الإنسان الخشوع وهو ساكن في حضرة الله، بينما لسانه يتكلم فيما لا يعنيه، أو عينه تزوغ في المعاصي، أو جوارحه تعبث بحرمات الناس، فالخشوع روح تنساب من القلب، وتظهر على الأعضاء، إنّه حياء من الله، وإذا غاب عن القلب هذا الحياء، فلن تجدي كل محاولات "التّخَشّع" الظاهري نفعاً.
ولأن الخشوع ينبع من الداخل، فعلى من أراد إصلاح ظاهره أن يبدأ بالبذر في قلبه، فالخشية والتقوى والخضوع، لا تُملى على الجوارح بقرارات خارجية، بل تُروى من نبع القلب، ولذلك قال الإمام (ع): "ثَمَرَةُ التَّقْوى الوَرَعُ، وَثَمَرَةُ الوَرَعِ الخُشُوعُ"
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي