
الإنسان يُبنى في صغره. عقله، علمه، معارفه، أدبه، عاداته، قِيَمه، ومردود ذلك يجده في كِبَره، هذا ما تؤكِّده هذه الحتمية التربوية المهمة، لذلك تجب المسارعة إلى تعليمه في صِغَره، وتربيته على عادة السؤال، وإجابته عن كل سؤال يطرحه، وعدم استثقال أي سؤال يكون منه، حتى ولو كان بديهياً أو هامشياً أو غير ذي معنى لدى الكبير، فالسؤال وحده هو الطريق الإلزامي للعلم والمعرفة، فما من شيء يعرفه الإنسان إلا ويسبقه سؤال منه، والسؤال يواكبه منذ نعومة أظفاره ويستمر معه حتى يغادر هذه الدنيا.
رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: "السُّؤالُ نِصفُ العِلمِ"، ورُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "القُلوبُ أقفالٌ مَفاتِحُها السُّؤالُ"، وعن رسول الله (ص) أنه قال: "العِلمُ خَزائنُ ومَفاتِيحُهُ السُّؤالُ، فَاسألُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ فإنّهُ يُؤجَرُ أربَعةٌ: السائلُ، والمُتَكلِّمُ، والمُستَمِعُ، والمُحِبُّ لَهُم ".
إن الطفل حين يسأل إنما يُعلن يقظة عقله، وانفتاحه على طلب العلم والمعرفة، وسؤاله المتكرِّر ليس إزعاجاً، بل هو بذور المعرفة، فلا بد من استغلال هذه الفرصة النادرة من قبل والديه أولاً، ومن قبل معلميه ثانياً، ولذا قال الإمام أمير المؤمنين (ع) في وصيته لولده الحسن المجتبى (ع): "وَإِنَّما قَلْبُ الحَدَثِ كالأَرْضِ الخالِيَةِ، ما أُلْقِيَ فيها مِن شَيءٍ قَبِلَتْهُ" فالعقل الناشئ أرض خصبة، وكل سؤال يغرس فيه بذرة ستثمر في المستقبل، فإنْ زُرع فيه حُبُّ المعرفة نَما عقلاً باحثاً قادراً على الاستنباط والجواب، أمّا إذا تُرك دون ذلك، استحال أرضاً قاحلة من المعرفة والإبداع.
ولأجل هذه الحقيقة، نرى الإمام (ع) في وصيته آنفة الذكر لولده الحَسَن (ع) يقول: "وَبادَرْتُكَ بِالأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُو قَلْبُكَ، وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ" فالتربية المؤجَّلة قد تفقد أثرها، بينما التعليم المبكّر يُرسّخ العادات الفكرية والروحية في عمق كيانه.
إن التربية والتعليم في هذه المرحلة أكثر ضرورة من المراحل الأخرى، لان فطرة الطفل في هذه المرحلة لا تزال سليمة ونقية تتقبَّل ما يُلقى إليها من توجيهات وإرشادات ونصائح، قبل أن تتلوَّث ويستحكم التَّلوّث فيها، فيجب على الوالدين استثمار الفرصة لأداء المسؤولية التربوية.
نستنتج مما سبق ثلاث حقائق مترابطة: السؤال في الصغر بذرة العلم والمعرفة، وقلب الحدِث أرض خالية قابلة للغرس، والمبادرة إلى تربيته قبل أن يقسو قلبه ضرورة، وبهذا يظهر أنّ من يسأل صغيراً إنما يحرث أرض قلبه، ومن يتلقى التربية في أول عمره يروي غرسه، ومن يثابر على ذلك يحصد في كبره ثمار العلم والحكمة، فيكون قادراً على الإجابة، معلّماً بعد أن كان متعلّماً.
لذلك من الضروري للوالدين أن يُشَجِعوا أطفالهم على السؤال، وأن يُصغوا لأسئلتهم، ويُشركوهم في البحث عن الأجوبة، فيوجهوهم إلى المصادر التي يجدون فيها تلك الأجوبة، ولا يقمعوا فضولهم، وأن يبادروا إلى غرس القِيَم في عقولهم قبل أن تشتد طباعهم وتقسو قلوبهم.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي