
تحدثنا في مقالة سابقة عن الطوائف المتصارمة، تقطيعًا وتهجيرًا، وتنازعًا مميتًا،وكانت نتيجة مبحثنا، أن
 الطائفية ليست من اللعنات التي تصيب المجتمعات الإنسانية، وإنما هي تجوهرٌ في هذا الوجود، وشرط ضروري للتحقق في الكيانية، ومبعثٌ نحو التكاملية،فضلاً عن ما تعنيه من إيجابية على مستوى التفاعل الوطني؛ولكنّ الجاهلية، هي التي كانت دائمًا تحول دون أن يكون للوطن اللبناني تفاعله الحقيقي، فتحول كل شيء عن طبيعته، ليكون مناقضًا مع ما استوى عليه في أصل تكونه، فحيث لا يكون التنوع مؤديًا لغاياته، تكون الجاهلية مستحكمةً في منابته.
ولهذا نجد أن الأنبياء(عليهم السلام) لم يبعثوا إلا في جاهليات مستحكمة، دينيًا، وسياسًا، فلبنان ليس بدعًا من البلاد والأوطان حتى تكون له هذه التحولات السلبية في الطائفية والمذهبية، فهناك الكثير من المجتمعات التي تنوّعت وتفاعلت إلى حد التكامل في تعارفها وتعايشها؛ فلماذا استحال على لبنان أن يكون له تمايز الوطنية في التأسيس لأنموذج التعايش الإيجابي؟ إنها الجاهلية اللبنانية التي أظهرت لبنان على هذا النحو من التناقض، رغم كل المزاعم الكاذبة بارتقاء الشأنية، وتحقق الوطنية!
 
فالكل مجمعٌ اليوم على أن الدين والسياسة كليهما يسهمان في المزيد من السلبية والطاغوتية في مجتمع متنوع يفترض في الدين قبل السياسة أن يلتقي أهله على مشروعية الوجود، إن لم يكن ممكنًا الالتقاء على حقانية الوجود! وكما قلنا:إن أسباب ذلك كثيرة، ولعل من أهمها، هو ظهور الجبت والطاغوت في حياة اللبنانيين، لأن الجاهلية في أصل تكونها وظهورها، هي منزع شيطاني، ومنبت سوء تنبعث منه نحو الاستبداد والطاغوتية.
إقرأ أيضاً:
لقد سبق لجاهلية ما قبل الإسلام، أن شهدت مثل هذا التحول المناقض لكل المبادىء والقيم الحقة، فخرجت بكل تفاعلاتها لتنتج مجتمعًا جاهليًا يعتمل فيه كل ما يجافي المبادىء والحقوق، وكما وصفه 
الإمام علي(ع) بقوله"على شر دين، وفي شر دار". 
فالجاهلية اللبنانية بكل ما تتقوّم به اليوم من جبت وطاغوت، لم تهذبها سياسة العقلاء، ولا تقوى الأديان، بل استفحلت فيها الشرور، ومنابت السوء، لتجعل منها منشأً لكل سلبية في الدين والسياسة والاجتماع، ولم تفلح كل مواعظ الإرشاد في بعث روح التفاعل الإيجابي بين مكونات الوطن، وكيف يكون ذلك، وقد اختار بعض اللبنانيين التماهي مع عدو وطنهم! هذا العدو الذي لم يعرف عنه يومًا أنه يؤمن بالتنوع، أو أنه يريد للبنان أن يكون بلداً للمواطنة!
 ألم نسمع من هؤلاء اللبنانيين أنهم يطمحون للسلام مع العدو، ويبرؤونه من كل عدوان!، وهذا ما يذكّرنا بما فعله طواغيت بني إسرائيل حينما عزموا على التحالف مع طواغيت قريش ضد النبي محمد(ص)، فقالت قريش لليهود، من أهدى نحن ، أم محمد، فقالوا:أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد، فأنزل الله تعالى:" ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا".(سورة النساء، آية:٥١)
 
لقد تمظرت الجاهلية اللبنانية بكل منازعها، ولسنا نحايد بين فريق وآخر، وإنما ندعو إلى التأمل في ما أنتجته هذه الجاهلية من تفاعلات سلبيةبعناوين دينية وسياسية، وذلك بعد أن تحول كل سياسي وديني إلى طاغوت برأسه!، فليس هناك من مواطنة خارج ما يزعمه الطاغوت لنفسه من منازع! وقد قال طاغوت الجاهلية اللبنانية ما قاله طواغيت الذين كفروا من بني إسرائيل قديمًا، زاعمًا أن وجود المقاومة اللبنانية، هو الذي يتسبّب بالعدوانية الإسرائيلية على لبنان!
 أليس في هذا القول ما يكفي للتدليل على أن لبنان لم يخرج من جاهليته هذه منذ تأسيسه، وهذا هو السبب الذي يمنع من تحقق المواطنة بشرطها وشروطها، بحيث يكون لدى اللبنانيين إمكانية التحول نحو الإيجابية على الأقل في التمييز بين العدو والصديق.
أما أن نتحدث عن التنوع، وعن الغنى اللبناني في الشرق في ظل ما نعايشه من منابت السوء في الدين والسياسة، فهذا مما لا يمكن تعقله، أو البناء عليه في تحقيق شروط المواطنة، ونحن إنما نجمع دائمًا بين الدين والسياسة لقناعتنا بأن الجاهلية اللبنانية تقوم على هذا التحالف لإنتاج الجبت والطاغوت بكل ما يعنيه ذلك من خرافة، وشر، وعبثية، وعدمية، إذ لم يعد ممكنًا تلافي منازع الشياطين في إظهار روح العداوة بين الأفراد اللبنانيين، ونقول الأفراد لما هو ظاهر من تباين في المنازع والمشارب!
إن الجبت والطاغوت في الجاهلية اللبنانية، لا نحتاج إلى مزيد عناء لتظهيره بعد سيادة روح الإنقسام، وإظهار المودة اتجاه الأعداء! فالطاغوت لم يعد مجرد حكاية في الواقع اللبناني، وإنما هو حقيقة قائمة وناطقة بكل شر وسوء وقبح، وهذا ما يتطلب وعيًا وطنيًا للحيلولة دون التحول نحو السلبية القاتلة! فلتكن مشروعية وجود الطوائف والأحزاب في لبنان، مسلكًا ومنهجًا في محاربة الطاغوت بكل فروعه ومنابته، بعد أن توزّع على النفوس، واستوطن بكل روح! إنها المفارقة العجيبة، أن تسمع أصوات الردة من كل حدَب وصوب، لتعطي انطباعًا كارثيًا بأن الوطن اللبناني لا قيامة له إلا بالجاهلية على نحو ما هو ظاهر اليوم في التنوع اللبناني، فكل حزب فرحٌ بما لديه، ومأخوذ بمزاعمه لما ينبغي أن تكون عليه المواطنة اللبنانية، وكأن لبنان هو البلد الوحيد في العالم، الذي تتنوّع طوائفه، وتختلف منازعه ومشاربه!
فإذا لم يخرج الوطن من جاهلية الجبت والطاغوت، سواء في الدين، أو في السياسة، فلن تقوم له قائمة، وسيبقى الأعداء متربصين به، طالما أن الموقف هو التشظي في المطالب والمعارف، واختيار جاهلية التنوع على التعارف البناء بين الطوائف والمذاهب والأحزاب، وهذا كله يبقى مشروطاً بما يمكن تحقيقه من تآلف واتفاق على مبدئية الموقف اتجاه العدو بكل ما يمثله من منازع جاهلية، ومقوّمات طاغوتية.
بقلم الأكاديمي والباحث اللبناني في العلوم القرآنية الدكتور "فرح موسى"