ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ كَساهُ الْحَياءُ ثَوْبَهُ خَفِيَ عَنِ النّاسِ عَيبُهُ".
الحياء، ثم الحياء، ثم الحياء! فواللهِ، "إنَّ الحَياءَ لا يَأتي إلّا بِخَيرٍ"، بل إنّ الحياءَ خيرٌ كلّه، وما كان الحياءُ في شيءٍ قطّ إلّا زانهُ، كما قال رسول الله (ص).
فما أشدَّ حاجتَنا اليوم إلى هذا الخُلُق الرفيع، في زمنٍ صار فيه السَّتر تخلّفًا ورجعيّة، والفُحشُ علامةَ قوّةٍ وحضور، والتَّهتّكُ سِمةً لكثيرٍ من الناس؛ لا يُخفون شيئًا، ولا يهابون إعلانَ المنكر، ولا يستحيون من عيبٍ فيهم، يُظهِرونه على الملأ، على صفحات التواصل الاجتماعي، ليراه الملايين من البشر، في مقابل عددٍ من الإعجابات، وانتظارٍ لفيضٍ من التعليقات.
إقرأ أيضاً:
هذه السِّمةُ - سِمةُ التَّهتّك وانعدام الحياء-  من أبرز ملامح عصرنا، وقد صار لها حضورٌ طاغٍ في الحياة اليومية وفي الفضاء الإعلامي والرقميّ على السواء. فحتى الأمس القريب، كان الإنسان يُخفي عيوبَه ويستحيي من إظهارها، أمّا اليوم فقد صار بعضُ الناس يتباهى بالخطأ، ويحوّل السقوط الأخلاقيّ إلى مادّةٍ للتفاخر أو التسلية، خصوصًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
فالكذبُ، والخيانةُ، والفُحشُ، وحتّى الرذائلُ السلوكيّة، باتت تُعرَض كأنّها بطولات، ويُصفَّق لها جمهورٌ تافهٌ لا يطلب إلا الإثارة. بل تطوّر الأمر من مجرّد الجرأة في الطرح، إلى الفجور في التعبير: من ألفاظٍ نابيةٍ، وإيحاءاتٍ جنسيّةٍ، وسخريةٍ جارحةٍ، ومحتوى خادشٍ للحياء، دون أيّ اعتبارٍ لقيم الذوق العام أو لحرمة الكلمة.
هذه الممارسات تُبرَّر غالبًا باسم "حرّية التعبير" أو "كسر التابوهات"، لكنها في جوهرها تعكس تسطيحَ القيم وتحويلَ الابتذال إلى معيارٍ للشهرة.
وأسبابُ ذلك كثيرة: من هيمنة ثقافة الاستهلاك، وما تُروِّج له الدعاية من قيمٍ هابطةٍ لاستقطاب الجمهور إلى الشراء، إلى الإعلام الذي يبثّ برامج ومحتوياتٍ تحتفي بالفضائح أكثر ممّا تحتفي بالعلم والعمل، إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي حوّلت كلَّ فردٍ إلى مُنتِج محتوى يلهث وراء التفاعل ولو بفضيحة.
ولا ننسَ النزعة الفردانيّة التي تقدّم الحرّيةَ الفردية المطلقة على أيّ اعتبارٍ اجتماعيٍّ أو إنسانيّ، فضلًا عن الفراغ القِيَميّ وغياب الضوابط الأخلاقية والقدوات الصالحة.
ينتج عمّا تقدّم تآكُلُ الثقة بين الناس بسبب تطبّعهم على الفُحش في القول والفعل والممارسة، وتحطيمُ الذوق العام، وابتذالُ الخطاب الإعلاميّ والثقافيّ والفنّيّ، وتشويهُ صورة القِيَم الأصيلة كالحياء والعفّة، حتى تبدو كأنّها تخلّفٌ ورجعيّة، وتكوينُ أجيالٍ تظنّ أنّ الشهرةَ وجني المال إنما يُنالان بالفُحش والتَّهتّك، لا بالعمل والجِدّ والإنجاز.
وقد قال أمير المؤمنين (ع): "مَنْ كَساهُ الْحَياءُ ثَوْبَهُ خَفِيَ عَنِ النّاسِ عَيبُهُ" بهذه الكلمات النورانية الموجزة، يُضيء الإمام(ع) طريقنا نحو تكامل شخصيّتنا الإنسانيّة.
إنها حكمة لا تُخبرنا عن فضيلة الحياء فحسب، بل ترسم لنا منهجًا عمليًّا لستر العيوب، وصون الكرامة الشخصيّة، وبناء الشخصيّة العزيزة النبيلة.
الحياء في الميزان الإسلامي ليس ذلك الخجلَ العاطفيّ الذي يمنع صاحبه من قول الحقّ أو فعل المعروف، بل هو خلقٌ كريم يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حقّ ذي الحقّ، وهو بهذا المعنى *"مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ"* كما وصفه الإمام أمير المؤمنين (ع).
فالحياء قوّةٌ أخلاقيّة تردع الإنسان عن كلّ ما يُعابُ عليه، من غير أن تمنعه من المطالبة بحقّه أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والحياء، قارئي الكريم، سَتّارٌ، يستر العيوب الحسيّة والمعنويّة معًا؛ فحين يتحلّى المرء بالحياء، يحجب عيوبه عن الأنظار، فلا يظهر منه إلّا ما يليق بكرامته. فالإنسان الحَيِيّ يستر بدنه وعوراته، محافظًا على احترامه واحترام الآخرين. والحياء يستر الإنسان معنويًّا، لأنّه يصدّه عن كلّ قبيح؛ والحياء لا يُخفي العيب فحسب، بل يمنع حدوثه أصلًا، وهو ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين (ع) بقوله: "الحَيَاءُ يَصُدُّ عَنِ الفِعْلِ القَبِيحِ".
إنّ قول الإمام (ع): "مَنْ كَسَاهُ الحَيَاءُ ثَوْبَهُ خَفِيَ عَنِ النّاسِ عَيْبُهُ" دعوةٌ إلى أن يجعل الإنسان من الحياء رداؤه الدائم، الذي لا يخلعه في خاصّةٍ ولا عامّة، فبه يتحقّق السِّتر والعِفّة، وبه تُبنى المروءة والكرامة، والحياء في النهاية أصلُ الإيمان، لأنّه يدفع إلى الطاعة، ويُبعِد عن المعصية. 
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي