
ورُوِيَ عن
الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ أَفْنى عُمْرَهُ في غَيْرِ ما يُنْجيهِ فَقَدْ أَضاعَ مَطْلَبَهُ".
ما العمر، قارئي الكريم؟ أهو مجرّدُ أيّامٍ وليالٍ تنقضي، أم هو فرصةٌ يمنحها اللهُ للإنسان ليتكامل فيها روحياً ومعنوياً ومادّياً؟ فرصةٌ يعمل فيها لبناء ذاته ودنياه وآخرته، فرصةٌ يزرع فيها ما شاء، ويجني في آخرته ثمارَ ما زرع في دنياه، فرصةٌ تبدأ من الغيب وتنتهي إلى الغيب، تبدأ من الله وتنتهي إلى الله.
إقرأ أيضاً:
العمرُ في ظاهره أيّامٌ وليالٍ، وتقويمٌ يحرّكه الزمن بثباتٍ دونما كللٍ أو ملل. يولد الإنسان في نقطةٍ من خطٍّ طويلٍ لا يُرى منتهاه، ويمضي العدّ: يومٌ بعد يومٍ، وعامٌ بعد عامٍ، إلى أن يتوقّف العدّاد في اللحظة التي يُقال فيها: "انقضى الأجل".
لكن لو كان العمر مجرّد عددٍ من السنين، لكان سواءً عند الله مَن عاش طويلاً ومَن رحل شابّاً، غير أنّ المعادلة أعمق، والميزان أدقّ، فالعُمر في حقيقته ليس ما نعدّه، بل ما نعيشه بحقّ، بل ما نعمل فيه وننجز.
العمرُ فرصةٌ يهبها اللهُ للإنسان، فرصةٌ مؤقّتةٌ بأجَل، كلّما مضت ساعةٌ اقترب الأجلُ المضروب لها. فإن أفناه الإنسانُ بالعمل والتكامل والنموّ والتطوّر في مختلف أبعاد الحياة، أثمر وجوداً طيّباً. وإن أفناه فيما لا يعود عليه بالخير، أو أفناه في الشرّ، جنى ثمراً خبيثاً وحياةً مليئةً بالمرارة. فالعمر ليس مجرّد مرورٍ للوقت، بل مرورٌ للإنسان عبر نفسه، رحلةٌ من الجهل إلى المعرفة، ومن الغفلة إلى اليقظة، ومن الأنانية إلى المحبّة.
العمرُ الحقيقيّ لا تكمن قيمتُه في طوله أو قِصَره، بل في الأثر الذي يتركه الإنسانُ خلفه. فكم من قصيرٍ في عمره عظيمٍ في عطائه، باقٍ في الذاكرة والقلوب، وكم من ممدودٍ في عمره لم يزد على أن يستهلك الهواء والماء والغذاء! فليس المهمّ أن يسأل الإنسانُ نفسه: كم عاش؟ بل: كيف عاش؟ لأنّ العُمر ليس زمناً نستهلكه، بل امتحاناً نعيشه، ورحلةً نحو الكمال الذي يليق بإنسانٍ نفخ الله فيه من روحه.
في هذا السياق تأتي المعادلةُ التي ذكرها الإمامُ أميرُ المؤمنين (ع) لتربط بين إفناء الإنسان عمرَه فيما لا يُنجيه، وبين إضاعته ما يطلبه ويرغب به؛ فالنجاةُ من مآزق الدنيا، كما النجاةُ من شقاء الآخرة، ليستا مجرّدَ مطلبٍ من مطالب الإنسان، بل هما المطلبُ الأهمُّ الذي تُقاس به قيمةُ الحياة وغايةُ الوجود.
النجاةُ التي يشير إليها الإمامُ (ع) لا تقتصر على صعيدٍ واحد، بل تحمل معنىً شاملاً يبدأ من الخلاص من ضيق الدنيا، وصولاً إلى الفوز بسعادة الآخرة. وقد أكّد القرآن الكريم هذا المعنى؛ فالحياةُ الدنيا ليست سوى متاعٍ زائل، بينما الآخرةُ هي دارُ الحياة الحقيقيةُ المثلى، قال تعالى: وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿العنكبوت:64﴾
فإذا كانت الدنيا ممرّاً مؤقّتاً، وكانت الآخرةُ مقرّاً أبديّاً، وكانت النجاةُ حاجةً ملحّةً للإنسان فيهما، فمن الضروريّ أن يُفني عمرَه فيما يرجع عليه بالخير في الدارَين، أي فيما يُنجيه فيهما. فذلك ما له الأولويّة المطلقة، وما سواه غيرُ مهمّ. فلا ينبغي له أن يصرفَ جهودَه في غير ما يُنجيه، ويتركَ الاهتمامَ بما يُنجيه. وذلك يقتضي منه المحاسبةَ اليوميّة، والمراجعةَ الدوريةَ لجميع خطواته، وأن يسألَ نفسه: فيمَ أفنى عمرَه؟ وماذا فعل للفوز بالنجاة؟
بقلم الكاتب والباحث اللبناني السيد بلال وهبي