
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنِ اجْتَرَأ عَلى السُّلْطانِ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلْهَوانِ".
معادلةٌ مهمّةٌ تحكم العلاقةَ بين الحاكمِ والمحكوم، بين الإنسانِ والسُّلطة، إذ تربط بين الجرأةِ على السلطانِ والتعرّضِ للهوان.
قارئي الكريم، إنّ السُّلطة ليست منصبًا ولا جاهًا ولا قوّةً كما يبدو في ظاهر الأمر، بل هي امتحانٌ مزدوج: امتحانٌ للحاكم في عدله، وحكمته، ودرايته، وحُسن تدبيره، ورأفته، ولُطفه، ورحمته بمن يحكمهم ويدير شؤونهم، وامتحانٌ للرعيّة في طاعتها للحاكم، وتعاونها معه، ونُصحها له، وحدود معارضتها إيّاه.
وممّا لا شكَّ فيه أنّ الإمام أمير المؤمنين (ع) -وهو الشجاع الذي لا تأخذه في الله لومةُ لائمٍ- لا يُحذِّر هنا من قولِ الحقِّ في وجه السلطان الجائر الظالم، فذلك من أوجب الواجبات، ولا يُعفي الإنسانَ من مسؤوليّة النُّصح للحاكم وكلِّ ذي سُلطة، بل يُحذِّر من التهوّر في مواجهته من دونِ حِكمةٍ أو بصيرةٍ أو تقديرٍ للعواقب. فالمقصودُ بالاجتراء عليه هو التعدّي بغير رويّةٍ، لا الجرأةُ في نصحه ومعارضته معارضةً إيجابيّة؛ فهذه شجاعةٌ ينبغي أن يتحلّى بها المؤمن، بل كلُّ شخصٍ يحترم ذاته ويُقدّر قيمته.
والفرقُ عميقٌ بين الجرأةِ والشجاعة، كالفرق بين التهوّرِ والبصيرة. فالشجاعةُ فضيلةٌ بين الجُبنِ والتهوّر، تقوم على توازنٍ دقيقٍ بين الموقفِ المطلوب والعواقبِ المترتّبة عليه، فتكون شجاعةً محسوبةً، شجاعةً واعية. أمّا الجرأةُ المذمومة فهي اقتحامُ الخطرِ من دون وعيٍ أو قدرةٍ على تحمّل تبعاته. ومن يعرف قدرَ نفسه يعرف متى يُقدِم ومتى يُحجِم، متى يتكلّم ومتى يصمت، ومتى يواجه ومتى يصبر.
ومن الواضح للقارئ الكريم أنّ المقصودَ من (السلطان) في كلام الإمام (ع) ليس خصوصَ الحاكمِ السياسي، وإنْ كان هو أبرزَ مصاديقه، بل يشمل كلَّ مَن وُلِّيَ على الناسِ أمرًا، أو مُكِّن من رقابهم بسلطةٍ سياسيّةٍ أو إداريّةٍ أو ماليّةٍ أو فكريّةٍ؛ فالسّلطان هو كلُّ قوّةٍ قادرةٍ على التأثير في مصائر الآخرين.
فمَن اجترأ على السلطان السياسيّ تعرّض لهوانِ التضييقِ والسجنِ، وربّما تعرّض للنفي أو القتل، ومَن اجترأ على المدير أو المسؤول بطيشٍ وغضبٍ تعرّض لهوانِ الإبعادِ والخِذلان، ومَن اجترأ على سلطان المال أو الإعلام أو الرأي العامّ من غير وعيٍ تعرّض لهوانِ التشويهِ والنَّبذ.
وهكذا تتّسع الحكمةُ حتى تُصبح قانونًا عامًّا في الاجتماع الإنساني: كلُّ مَن يُواجه السُّلطةَ من دون علمٍ وعدلٍ وحِكمةٍ، يُعرِّض نفسَه وكرامتَه للهوان.
وفي زمننا الحاضر، تتجلّى هذه الحكمةُ في بيئات العمل والمؤسّسات، في علاقة الموظّف بالمدير، والفرد بالمسؤول الذي أُنيط به اتّخاذُ القرار. فإذا كان من غير الجائز أن يرضى الموظّفُ بالظلمِ أو الانحرافِ أو أن يسكتَ عن الخطأ، فإنّه من غير الجائز أيضًا أن يُعبّر عن اعتراضه من دون ضوابطِ العقلِ والأدبِ والأخلاق.
فكم من موظّفٍ اجترأ على مديره في لحظةِ غضبٍ بكلمةٍ جارحةٍ، فخسر احترامه ومكانته وربّما وظيفته، وكم من موظّفٍ آخرَ اختار طريقَ الحكمة، فعبّر عن رأيه بلُطفٍ واتّزانٍ، فكسب احترام مديره وثقته، وربح الموقفَ من غير أن يخسر كرامته. والفرقُ بين الحالتين ليس في القول ذاته، بل في الأسلوبِ والنيّةِ والتوقيت؛ فالجرأةُ التي يصوغها الغضبُ تُورِث الهوان، والجرأةُ التي تصوغها الحكمةُ تُورِث الاحترام.
إنّ المؤمن لا يحتاج إلى حدّةٍ ليُثبت حقَّه، بل إلى سلوكٍ راقٍ يجعل الحقَّ ناطقًا به من دون خصومةٍ أو إساءة. ولذلك يحرص على ضبط انفعالاته، فلا يُواجه الغضبَ بالغضب، ولا العنفَ بالعنف. والمؤمنُ جريءٌ في قول الحقّ، لكنّه لا يكون متهوِّرًا ولا مستعجِلًا، بل يأخذ وقتَه في التفكير، ويتدبّر في عواقب ما يُقدِم عليه، ويعرض آراءَه ونقدَه بأدبٍ ولغةٍ راقية.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي